ذكريات من دروب الامل "2" عبور النهر مع الطفلة أيوان / سرتيب عودة

بما ان الحصار بات امرا واقعا، الجحوش الزيباريين على يميننا احتلوا رؤوس التلال والقمم الجبلية والجيش على يسارنا وخلفنا، لم يتبقى لنا للنجاة من هذه الكماشة غير النهر (نهر الزاب). علينا عبوره إلى الضفة الأخرى ومنها نتسلق سفوح جبل شيرين. لكن النهر في حالتنا تحول هو الاخر إلى عدو، إلى جدار رابع لحصارنا. كانت المسافة المتروكة لنا منه هي الأوعر والأشد جرياناً. جردنا قوانا وكنا 29 نصيراً، تبين أن من يجيد السباحة منا 5 فقط. إذن لا محالة من تشديد البحث بين المزاغل وتحت الصخور عن إطارات المطاط التي يستخدمها الأهالي في العادة لعبور النهر. وكان بحثنا يشبه من يبحث عن قط أسود في مكان أظلم. لكن على أية حال وجدنا عدداً منها وكانت أما مثقوبة أو بحاجة إلى نفخ. وأن تنفخ إطار جرار زراعي بفمك ستكون بحاجة إلى رئة ديناصور.

تبرع عدد من (الديناصورات) من بيننا للنفخ ونجحوا بنفخ أحد الإطارات. القصف المدفعي العشوائي وهو يستهدف كل مكان تقريباً لم يتوقف طيلة النهار. كنا متخفين في ملاذات آمنة نسبياً من هذا القصف. لا تبعد ملاذاتنا عن النهر مسافة طويلة. وكنا ان نعرف عدد غير قليل من القرويين النازحين من بيوتهم قد حوصروا في قمم جبلية غير بعيدة عنا، بعد أن فشلوا في العبور. عند المساء وقبل مغيب الشمس ونحن نتهيأ للحركة لتنفيذ مشروع العبور والذي لا ندري كيف سيتحقق. وإذا بنا نسمع صوتاً لا علاقة له بسمفونية القصف طيلة النهار، كان صوتاً طفولياً يغني بشجن. الصوت قريب يأتي من الطريق الواقع تحت مكان اختفائنا. قصد أثنان منا مصدر الصوت. وبعد دقائق تطاولت، عادا وبرفقتهما طفلة بعمر لا يتجاوز الست سنوات. تحمل بيد قطعة خبز وباليد الأخرى علبة دهن الراعي البلاستيكية الصغيرة فيها قليل من الماء. ماذا تفعل طفلة لوحدها في هذا القفر الجبلي؟؟. طفلة جميلة تبدو عليها سيماء النباهة والذكاء. عرفنا أن اسمها (إيوان) وأهلها منهم من قتل في القصف ومنهم من غرق ومنهم من عبر إلى الضفة الأخرى. حدث هذا في مساء نفس يوم وصولنا. بعد ان غادر الأهالي الى قمة الجبل وبعد ان بدا الوادي خاليا الا منا ومن بعض الحيوانات الداجنة السائبة. وايوان كانت قد اعتصمت بهذا المكان وحيدة لا تدري ماذا تفعل. وعرفنا أنها من أحدى قرى منطقة العمادية ولها خالة تسكن في زاخو.

ماذا نفعل لهذه الطفلة..؟

 اجتمعت قيادة المجموعة لاتخاذ قرار يخص هذه الطفلة. وكان قرار الأكثرية أننا غير قادرين على اصطحابها معنا، بل  ندلها على الطريق الذي ستلتحق عبره بمجموعة من القرويين الهاربين والمعتصمين بأحدي القمم الجبلية ومؤكد ستجد هناك من يساعدها. وهكذا. زودناها بما تبقى عندنا من خبز وماء ووصفنا لها طريق الذهاب إلى تلك القمة الجبلية. وكانت قريبة نسبياً.

ثم توجهنا إلى مشروعنا  التخطيط لعبور النهر. لكن، ما هي سوى سويعات قليلة وإذا بالطفلة تلحقنا عند مكان اختفائنا. لم تقل شيئاً. ظلت صامتة لا ترد على أسئلتنا. لكنها مصرّة على رفقتنا. لا أدري لعلها لم تعثر على أحد هناك أو أنها أحست بالأمان معنا، لكن المؤكد أنها باتت جزءاً منا. أهتم بها الأنصار بشكل استثنائي. كانت مدللتنا. لكننا فشلنا في العبور هذه الليلة. كان تيار الماء هادراً مرعباً قد لا ينجو منه حتى السباحين. عدنا إلى مخبئنا ومعنا الطفلة. على أمل أن نستطلع خلال النهار مكاناً آخر غير هذا للعبور. ووجدنا مكاناً بدا أسهل من الأول.

وكانت العملية أن يخلع الأنصار ملابسهم ويربطوها مع أسلحتهم بحبل على الإطار، وكل اثنين من غير السباحين يعبران معاً يمسكان الإطار المطاطي كل واحد من جانب ويكون في المقدمة أحد السباحين يسحب الإطار وهو يسبح وآخر خلف الإطار يدفع الإطار وهو يسبح كذلك. ثم يعود السباحان من الضفة الأخرى مع الإطار لنقل اثنين آخرين. عملية استغرقت الليل بطوله نجح بالعبور في الليلة الأولى تسعة فقط. 

في الليلة التالية قمنا بتكرار ذات التقنية. وفي كل مرة نؤجل عبور الطفلة للمرة القادمة. وكان التعب قد نال من السباحين ولم تعد أذرعهم تطاوعهم وهم في صراع غير متكافئ مع تيار ماء مثلج وفي انحدار شديد، عدا هذا كنا جميعاً بلا أكل منذ ثلاثة ايام. لأن أرغفة الخبز التي عجنّا طحينها بحليب البودرة وقليناها بدهن الراعي قبل اسبوع في محطتنا الأخيرة، نفذت وتعفن الباقي منها من شدة الحرارة.

ظلت أيوان هي الفقرة الأخيرة التي نخاف عليها في هذا التراجيديا من الصراع مع النهر أكثر من خوفنا على أنفسنا. ربطت على الإطار البلاستيكي بشكل لا يجعلها تتحرك خوفاً عليها من أن ترتعب في منتصف النهر وتقفز أو تتحرك. رافق الإطار اثنان من السباحين المنهكين وفي منتصف النهر حيث التيار على أشده، خارت قوى السباحين وأنقلب الإطار. أصبحت أيوان تحت الماء والإطار فوقها. وحدث على الضفة الأخرى موقف مرعب من الصراخ والنداءات التي أخفاها عن الربايا القريبة صوت هدير الماء وإلا لانكشفنا. وبسرعة رمى اثنان آخران من السباحين أنفسهم في النهر وجعلوه يأخذهم بسرعته إلى حيث ايوان. وبجهد جبار  استطاعا إيقاف جريان الإطار والعودة به مرة عكس التيار ومرة إلى الجانب.. حتى وصلا الضفة. وعندما رفعنا الإطار ظننا جميعاً أن أيوان قد فارقت الحياة. لكنها كانت في غيبوبة. عمل لها أحد الرفاق التنفس الاصطناعي ونجح بإخراج كميات كبيرة من الماء من بطنها. حتى فتحت عيونها وبدأت تنتفع.. عادت أيوان إلى الحياة..

يتبع