عاشقة المطر _ صفحات من دفتر ذكريات بيشمركة / حمودي عبد محسن

 لقد انتهينا في أواخر 1981 من القيام بعملية عسكرية في ضرب ربايا الجيش في ( سوارة توكة ) ، ثم انحدرنا ليلا إلى غابة كثيفة الأشجار خشية من انطلاق الطائرات المروحية في صباح اليوم الآتي التي كنا نطلق عليها ( السمتيات ) لتطاردنا ، وتمطرنا بالصواريخ ، وحرمنا أنفسنا في تلك الليلة من إشعال النار ، لئلا تكشف النار اختبائنا ، فالدخان المتصاعد هو الذي يفضح موقع البيشمركة فلذلك تجنبناه رغم برد نهاية الشتاء ، هكذا لاح لنا الفجر ، ونحن نرتعش من البرد ، فأخذتني رغبة أن أطوف في الغابة ، وهذه عادتي كجيولوجي يرتبط بالطبيعة ارتباط وثيق .كانت السماء تزدحم بكتل من الغيوم السوداء والرمادية القانية اللون ، تتعانق مع البياض الذي يوحي بالنزاع مغلفة السماء ، وتتزاحم الكتل فيما بينها كإخطبوط فوق الغابة ، ربما_ تتفجر بالمطر ، فيها إضاءة بيضاء ، وخطوط ذهبية وردية ، وصورها في السماء كالأشباح بعيدة ، وقريبة كأنها تتلاحم مع تيجان الأشجار ، التي كانت تماما مغموسة بالحزن ، والغضب لتأخر الربيع ، فكانت بين فترة وأخرى تهزها رياح خفيفة ، فتتلاطم أغصانها ، وتطلق صرخات قوية ما تلبث أن تكون صامتة ، وتتقاطر منها دموع على الأرض الندية كأنها تعبر عن ولادة جديدة ، وبداية موسم الخصب ، بأن تتوج نفسها ببراعم من ذاتها فالأغصان تحكي قصة الشتاء البارد الذي غطاها بثلجه ، ويثير أسئلة كثيرة ، أسئلة دون أن تقول شيئا ، أما الأشجار دائمة الخضرة فقد فقدت غلال طبقات الثلج لتعلن عن خضرتها ، وظلت فارعة ، بهية ، متفتحة طوال الشتاء ببياض الثلج ، إذ لأغصانها تفرعات أشبه بأفواه مفتوحة بلا أسنان ،تفسر الثلج المراق منها على أسفل جذعها ، وقد أنهكها الثلج بالرغم من ملامح النداء أن تنفض عنها الثلج ، وتذكر بقدرتها أن تكون دائمة الخضرة في هدوء الألوان الخضراء الغامقة اتجاه أشجار البلوط التي تطلق صرخة احتجاج على فصل الشتاء ، كما لو أن كيانها يقول : كف يا برد ، ويا ثلج ! إن هذا هو صمت الاحتجاج التي تعبر عنه أشجار البلوط ، وقد تكون تحمل _ ابتسامة مكتومة _ للخلاص من الشتاء ، فقطرات تسقط من خدودها ، وتنهي تغلفها بوجه آخر قد غطاها بكثافة لونية بيضاء ، وهي ساكنة ، تتوق بدهشة إلى الربيع لتعبر عن صرختها بصمت ، وتستطيع أن تؤكده ، ببراعمها أمام فداحة البرد ، لا تريد أن تكون مترهلة في سبات ، تنفض عن أعماقها الحزن القاني ، مشفوعة بالانتظار من رفض واحتجاج أن يطول الشتاء أكثر من المعتاد ، أشجار متعبة خارج الربيع ، معفرة جذورها في عمق الأرض ، فكنت أتجول ، وأقول : ( الربيع قادم ) ، وعيناي تحدقان بتعب ، وإجهاد إلى كل ما أنتجته الغابة من انبهار ، فوقفت أمام نبتة صغيرة لا يتجاوز ارتفاعها 50 سم ، أوراقها تشبه أوراق البرتقال ، تزينها زهور بنفسجية ، وكانت أوراقها تواجه السماء كأنها جائعة للمطر ، كأن لها فم مفتوح باتساع صمته ليطلق صرخة : مطر… وأغصانها مرفوعة مثل يد ، وألوان الزهور تتوزع عليها من البهوت إلى القتامة ، فيها نقاط حمراء خجلة تشبه الدم القاني ، كانت تكسر جمودي من حدة المشهد ، وقوته علي ، إنها كانت وجه الغابة المحاطة بالأشجار _ آه ، أيتها النبتة الزاهية تنعمين بالزهور ! هذا ما قلته ، كأنني أعرف سره ، أي إنها تكاد تختنق بدون مطر ، وتعيش في معانات عميقة دون مطر ، زهورها برية جميلة ، تندت بالدمع ، وتعرت من كل جسدها ، حسناء لم تفقد بهائها ، _ ربما كانت خارجة من التاريخ في مهد الغابة ، تحمل عيونا مفتوحة ، مغمضة ، ذات دموع صافية ، حزينة ، انسحبنا من الغابة ، ودخلنا القرية بعد أن تأكدنا أن الطائرات بحثت عنا ، ولم تجدنا لأننا كنا نسمع دويها في الفضاء ، لم أستطع أن أبعد عن نفسي سلطان النبتة التي رحت أوصفها إلى مام أحمد ، وأنا أملك صرخة صامتة عادية بوجه منهك في دوامة برد الشتاء ، ا,صف حواشيها ، تاجها ، حزامها الأخضر ، ترصعها بالزهور ، وهي مستلقية على وسائد الأرض الوثيرة تحت مظلة الأشجار التي تحيطها ، فأكدت له إنها غائمة الملامح ، فهز رأسه ، وقال بصوت وقور خافت : إنها عاشقة المطر…هكذا يبدو لي أن جمالها طيفا زاحفا لي من التاريخ فلذلك أقول عنها ، وهي تثيرني برعشة رائعة لا أزال أتحسسها :

ألوان مشرقة في نهاية الشتاء

نبتة عطشى لمطر السماء

ودموع عينيها الكحلاء

ندى…

ندى يلتحم مع الهواء

مثل شعاع خفي خجول

بين ظل وظل في ضياع

تؤكد حضورها الأبدي

بين أشجار بلوط سمحاء

تهتز أوراقها في دلال حسناء

بدلال…

فوقها غيوم متموجة

إنها لا تقول شيئا

تعيد تشكيل نفسها في نهاية الشتاء