من ابطال السهول الدافئة / محمد علي رحيمة ابو احرار
الفقيد ابو علي الشايب
هو كاطع عجلان الساعدي
شيوعي منذ بذرات وعيه الاولى. فلاح جنوبي الاصل، تسامى على صراعات الارض ودار ظهره للريف بفعل خرابه. سجن مرات بتهمة الشيوعية. ومنذ ان استوطن العاصمة، صارت الخلايا السرية الشيوعية وتنظيمات مدينة الثورة عزاءه وشغله المحبب، وموضوعا للمتابعة. خاصة عندما يلتقي برفاقه القدامى، تراه يسأل عن الجميع واين رست بهم السفائن.
في الانصار كان ابو علي من البناة الاوائل لأكثر من قاعدة انصارية. كان ضمن المجموعة الاولى التي وصلت ارض الوطن قادمة من بلدان الغربة. جاءوا الى ارياف دهوك القصية ، الى واحد من الوديان القصية المسمى ( كلي كوماته) لبناء اولى القواعد الانصارية الشيوعية هناك. ومن ثم الحركة نحو الشرق صوب المثلث العراقي التركي الايراني، لإقامة القاعدة الجديدة (كوستة)، ومن بعدها روست.
- - - - -
صار صاحبي، منذ اللحظات الاولى للقائنا في قاعدة كوستة يوم السادس والعشرين من كانون الثاني 1981. حيث وصلت هناك بصحبة رفيقي الشهيدين و ضاح "صباح مشرف" واحمد " علي ابراهيم". عندها وبعد الساعة الاولى من استقبالنا، طلب منا ان نكتب سطور مختصرة للتعريف بهويتنا.
دعاني بلطف وابتسامة الى خارج القاعة ، للحديث بعيدا عن الآخرين. بدأ الحديث مقهقها وضاحكا ماسكاً بيده الورقة التي كتبتُ بها شيء عن حياتي في الحزب
- عرفتك والله، انت بياع اليانصيب بموقف السيارات في الثورة داخل..؟.
وأخذ يقهقه بشيء من المتعة في الحديث مع شخص واثق كل الثقة انني من معارفه المقربين. قلت له:
- (لا رفيق انت مشتبه، لم اكن بياع لليانصيب، بل كنت بياعا للماء البارد عند موقف السيارات). وأخذنا نضحك سوية. وبدأت اسئلته تتولى تباعا عن فلان وفلان وماذا حل بالشاعر ابو ....
مضى الوقت ممتعا في الحديث مع ابو علي ونحن نقلب الاخبار التي نعرفها عن العشرات من العوائل والرفاق والاصدقاء. اختصرنا في دقائق الحياة في بيوتات وشوارع مدينتنا الترابية المترامية الاطراف. مررنا على شوارعها وقطاعاتها واسماءها المهمة من مثقفين وشعراء، لا بل حتى المجانين هناك. صار لدي شعور حقيقي وكأني اعرف ابو علي من سنوات طويلة، علما اننا لم نلتقي من قبل، لكنه يعرف عني كل شيء. واخيرا قلت له :
- والان يا رفيقي فهمت انك مسؤولنا الحزبي ، وماذا بعد، كيف ستكون حياتنا هنا.
- لا تستعجل رفيق، نحن هنا في قاعدة مؤقتة على الحدود التركية، وسوف نتحرك اما الى اربيل او السليمانية، لا نعرف متى وكيف. الان نحن في مرحلة التوسع واقامة المزيد من القواعد الانصارية المهمة. رفاقكم الان في مهمة بناء قاعدة جديدة في منطقة روست.
ثم ابدى نصائحه لي عن الكثير من الامور التي تخص الحياة اليومية ، والرفاق والصعوبات التي نواجها في البدايات في حركة الانصار، وعن العلاقات الرفاقية. ثم ختم حديثه معي لا تتردد في السؤال عن اي شيء تجهله.
- - - - -
في اول اجتماع جماعي في قاعدة كوستة، كان الرفيق كاميران وهو مخابر القاعدة، كان قد ادلى بنقد رفاقي مبني على وقائع صحيحة، وهو ان ابو علي لم يكن ضمن نوبات الحراسة في الفترة الأخيرة، ترى ما السبب وما هو الفرق بينه وبين الآخرين، ولماذا هذا التميز. كان تعامل ابو علي مع هذا النقد بروح ايجابية خالية من اية محاولات تبرير او دفاع عن ممارسة خاطئة ولا مكان لها في منظمة الانصار الشيوعية. اعتذر عن تلك الاخطاء الغير مقصودة ووعد الجميع بعدم تكرار ذلك، وهنا تدخل أحد الرفاق من كان يقوم بتنظيم جدول الحراسات اليومي، وهو المسؤول عن تلك الممارسة بتصور شخصي منه، ودافع عن "اعفاء" رفاق مثل ابو علي عن واجب الحراسات، فما كان من ابو علي إلا ان يوقف المتحدث، ويسأله بالكف عن تلك الممارسات الغير صحيحة، ويجدد اعتذاره. لقد كان وقع ذلك كبيرا بنفوسنا نحن الانصار الجدد وتعلمنا منه الكثير.
- - - - -
في وسط اذار 1981 كنا سوية مع ابو علي الشايب ، في مفرزة كبيرة تحث الخطى نحو منطقة بالك. وتحديدا الى قاعدة ( ورتة) .كان الرفيق خضر روسي من يقود المفرزة. عددنا يقترب من الثلاثين نصيرا، بعد وصول وجبات عدة من الانصار الجدد من الخارج. كان مام خضر روسي يحرص على تزويدنا بكل ما يعرف من خبراته في حياة الجبل. كان علينا المرور بالقاعدة الجديدة روست. ولكن ابو علي الشايب كان أكثر الانصار نشاط وهو في الطريق، ترى لماذا الصق به لقب الشايب. لم يكن بهذا السن المتقدم بعد.
- (رفيق هنا قضية الالقاب ماشية وماكو واحد يقاومها، وانا فرحان بهذا اللقب). هكذا رد على استفساري الذي جاء بأسلوب صداقة خالي من التجريح وبنوع من المزاح. وكان هذا صحيحا، فهناك القاب تلصق بالبعض دون مقدمات، حتى يصبح صاحب اللقب الجديد لا مستساغا للقلب فحسب، بل ساعيا الى ترسيخه وكأنه حقيقة قائمة وجزء مهم من الشخصية.
يوم 19 اذار 1981 كانت قاعدة (ورتة) تعج بالنشاط والحركة. اعداد كبيرة من الانصار بدأت تجتمع هناك. مفارز كبيرة كانت قد وصلت. وللأنصار الجدد من امثالنا كان الآمر غير مفهوما. لكن التجمع جميل وممتع واشبه بالمهرجان الصاخب، خاصة عندما يحين وقت شرب الشاي. وتبدأ مقالب الرفيق هاشم-كريم بدن- بملء ابريق الشاي بالفلفل الاسود، هناك نشأت صداقات جديدة وجرى ترميم علاقات مقطوعة للكثير منا.
كان ابو علي الشايب قد رد على اسئلتي الفضولية عن ماذا هناك في تلك الاجتماعات المطولة منذ اكثر من يومين، بقيادة ملازم خضر. فهمنا ان هناك اعادة تشكيل للوحدات العسكرية. كان ابو علي من الاسماء الاولى التي تشغل المسؤوليات السياسية والحزبية في ذلك التحديث. نُسب الى مكتب الفوج الخامس المستحدث توا بمناسبة اعياد الحزب 31 اذار 1981 . وجرى تكليفه بالمهام الادارية للفوج الجديد.
بعد انتهاء الاجتماعات واكتمال اعادة تشكيل القوى، ذهب ابو علي الشايب على رأس مفرزة ادارية الى ناوزنك. كانت تضم مجموعة جيدة من الرفاق. كان الفقيد هاشم-كريم بدن- وعدد من الانصار محبي المزاح، قد سبقوا ابو علي برسم المهام، واولها واهمها هو" جلب اموال لنا من هناك"، فقد لعبت الليبرالية دورا مهما بتسريب اخبار وصول شنطة مليئة بالدولارات الى القاعدة ناوزنك. وكان كل ذلك يجري على شكل عرض مسرحي كوميدي، كان ابو علي خلاله في قمة الانسجام معه ضاحكا وهو يوصي الانصار بتوسيع جيوبهم استعداد لملئها بالدولارات.
بعد فترة وفي خضم العمل، أعيد نقل ابو علي الشايب الى سرية اربيل، كمسؤول عن التنظيم الحزبي. حيث احتفظ مكتب الفوج سوية مع مكتب سرية اربيل في قاعدة ورتة كمقر لهم. في حين ذهبت السرايا الاخرى الى ملكان وروست.
عندما بدأ (اوك) اول اعتداءاته في مناطق بالك، وضربهم لمفارزنا، وقتلهم الى
(عبد الله ماويلي ) الملتحق بنا حديثا، ورئيس الجحش سابقا، كان ابو علي سوية مع الشهيد علي كلاشنكوف من يقود المفاوضات معهم، في مقرات آمر قوة اوك ( قادر خبات) في قرية دركلة. كانت واحدة من مواقف ابو علي المهمة، خلال المفاوضات، هو توجيه تحذير اليهم، ان لا يتورطوا بدم الشيوعيين. في الوقت الذي كان ( قادر خبات) بمنتهى اللطف الدبلوماسي مع الرفاق.
قبيل ان يطوي عام 1981 اخر ايامها، تحركت مفرزة كبيرة بقيادة مام كاويس وابو علي . تحركت من بشت اشان الى مناطق العمق في سهول اربيل. كانت المفرزة تضم انصار سرية ملكان التي تضم غالبية رفاق كوي، وسرية اربيل. كان ابوعلي شديد التعاون مع مام كاويس كمستشار سياسي يشارك في ادق تفاصيل عمل المفرزة وتجوالها. وكانت المفرزة تلك اولى المفارز القتالية التي يشترك بها الفقيد في حياته الانصارية. كان على مستوى المهمة واذهل الاخرين الشباب في نشاطه وقتاله في معركة ( سي كاني).
ورغم عدم اجادة ابو علي للغة الكردية ، نراه لا يقصر في تثقيف الناس البسطاء من الفلاحين والرعاة في القرى التي تمر بها المفارز. كان دائما يوصينا على ضرورة اعتماد الاسلوب البسيط في ايصال المعلومة للناس. فقد كان مسألة الاقتتال الداخلي مع اوك الشغل الشاغل للناس. كان الجميع يجمع على انها نقطة سلبية.
بعد معركة (سي كاني)، انفصلت مفرزة مام كاويس الى ثلاث. احتفظ ابوعلي بالبقاء سوية مع مام كاويس حتى عودتهم الى بشت اشان في اواخر نيسان 1982.
في بشت اشان بدأت جلسات تقيم طويلة ، كان يشرف عليها الرفيق الفقيد ابو عامل. عندها قدم ابو علي مطالعة مهمة بظروف تجول المفرزة وانجازاتها واخفاقاتها. كان يشدد على ان القتال مع (اوك) هو اعقد الامور السلبية التي تواجه المفارز. وضرورة ان نركز على حل تلك الاشكالات.
عند اعادة تشكيل قوى الفوج الخامس من سرايا اربيل وكوي وخوشناوتي وانفصال روست، احتفظ ابوعلي كمستشار سياسي لسرية اربيل في مكتبها الجديد المكون من الرفاق ، عباس و ازاد – ضرغام- ومحسن ده شتي وابو علي. ابدى ابو علي عدم الارتياح لتلك التشكيلة الجديدة، خاصة لمكتب الفوج الخامس. وللأمانة لم يكن وحده في هذا التصور، بل شاركه الكثير من الانصار. كان يقول لنا ما هو الانسجام بين ابو ليلى وملازم احمد وكانبي صالح.
ولكن وعلى ما يبدو، لم تكن كلماته مسموعة. لكنها تجلت بعد اسابيع قليلة من اعادة التشكيل، حيث ذهب الرفيق او ليلى (نزار ناجي) للعمل في مناطق بهدينان.
كان ابو علي بيشمركة وكمستشار سياسي للمفرزة الكبيرة لسرية اربيل التي تنشط في كل ما يحيط اربيل من جغرافية، أضافة الى داخل المدينة. كنا نتخذ من بسط الشرغة كقاعدة ثابتة، حيث تتحرك المفارز الصغيرة وتؤدي اعمالها ومهامها ثم تعود. وفي ظل تلك الحركة الدائمة عمل ابو علي على تنشيط الجانب التنظيمي الحزبي للسرية، فكانت هناك اجتماعات منتظمة، ونقاشات دائمة لاهم محاور سياسات الحزب التي دائما محطا للانتقاد، حتى من الانصار ذو الخبرات القليلة، حيث كان ابو علي يتعامل مع كل ذلك بروح المسؤولية. ومنذ تلك السنوات عدنا ان نسمع وان نتذكر ان هناك صفات حزبية وتراتبية داخل الحزب. فقد كان ابوعلي يحرص شخصيا بتبليغ الرفاق بتقديمهم الى لجان اعلى على الرغم من عدم اهمية ذلك بالعمل الانصاري. وعندما اعتمد الحزب فكرة التخلي عن ذلك واعتبار جميع الرفاق اعضاء بالحزب، كان ابو علي من اشد الداعمين لذلك التوجه. كان الرفيق ابو علي من اشد الرفاق المشجعين لمكتب سريتنا – برانتي- على اقامة اكثر من دورة تثقيفية فكرية كان الرفاق علي الصجي وئارم شاهين وكاروان قد اعدوا لها. كانت للأنصار الجدد الذين توا وضعوا خطواتهم الاولى بدرب الشيوعية.
للأسف لم يتم انتداب ابو علي وغيره من الرفاق الكفؤين واصحاب الخبرة الى المؤتمر الرابع للحزب الذي عقد في كردستان، بل لم يعرف الكثير منا بذلك على الرغم من وجودنا هناك. فقد تم اختيار اعضاء المؤتمر بناء على توصيات الهيئات القيادية العليا بالأسماء التي لها الحق ان تحضر، وبذلك جسدت تلك الممارسة اللاديمقراطية، وكذلك رسخت النهج السابق في العمل الحزبي في الوقت الذي كنا فيه بأمس الحاجة لتعافي التنظيم. ومعلوما للجميع ان المؤتمر خرج بنتيجة انضمام عشرة رفاق جدد الى اللجنة المركزية، ووقتها والى الان سميت تلك الواقعة " العشرة المبشرين بالجنة". هذا الحدث أكثر ما الحق الاذى النفسي والمعنوي بالرفيق ابو علي، كما عده تجاهل عن قصد للرفاق الذين لا يسبحون بحمد المتنفذين. كانت تلك الوقائع قد اخذت مساحة زمنية ليست بسيطة من نقاشاتنا، عصارتها الاساسية المرارة التي تحتدم بها نفوس الغالبية العظمى من الرفاق ومنهم ابو علي. ولكن سرعان ما تم تجاوز ذلك.
ظل ابو علي في هذا المناخ من العمل في قاطع اربيل، اما مستشارا سياسي او مسؤول حزبي او كليهما معا، لسنوات عدة. فقد كان في مكتب الفوج الخامس، سوية مع ملازم شوان ومنعم وابو دلشاد.
في أيار 1988 ،بعد اجتماع ل م آنذاك، تم تشكيل الفوج 21 من قبل مكتب القاطع. في خطوة غير مبررة، وفي غير وقتها، و في خضم هجومات السلطة وتحشدها لقواها على مختلف مناطقنا في اربيل والكوي وغيرها. تم اختيار ابو علي كمستشار سياسي للفوج الجديد الى جانب الرفاق، سعدون آمر للفوج وملازم رابر اداريا وابو احرار عضو مكتب. كان مقر الفوج في (قرية بركة).
لم يرى مكتب الفوج 21 النور في عمله الجديد، بل كان ابو علي هو من قاد الاجتماعات المعدودة لمكتب الفوج، فقد نقل الرفيق سعدون الى القاطع، وفي تلك الظروف كانت المتغيرات السياسية والعسكرية اسرع من المتوقع. وبدء القتال ضد قوات السلطة ، وبدء القصف الكيمياوي للمناطق، خاصة منطقة مقراتنا في بركة. وبدأت الانسحابات من مختلف فصائل بيشمركة الاحزاب الاخرى، كما وجدنا أنفسنا في اتون تلك الاحداث، نطبق ما اتفقنا عليه من الخطط البديلة، والتي تتلخص تحت عنوان عريض الانسحاب والتراجع نحو الحدود بانتظار ما ستؤول عليه الاحداث.
كانت ليلة 13-14 اب 1988 آخر المرات التي فارقت بها ابو علي الشايب، في مناطق عملنا في اربيل، حيث عبرت بمفرزة كبيرة من الانصار من مختلف القواطع ، من دول بركة الى ده شت حرير، في الطريق الى قاعدة بارزان ثم قاعدة كافية.
في 9 شباط 1989 رجعت التقي برفاقي و بوحدتي العسكرية وبالرفيق ابو علي الذي استقبلنا بأطلاق النيران احتفالا برجوعنا الى ناوزنك، كنا خلالها قد نفذنا القرارات التي صدرت لنا بالتوجه الى مناطق بهدينان، ولكن تقدم قوات السلطة السريع من هناك واحتلالهم لكافة المعابر المهمة، فرض علينا انسحابا طويلا على خط الحدود، تحت تكتيك "النار والحركة"، حتى وصولنا الى المثلث العراقي التركي الايراني.
للأسف لم تمنحني سنوات الغربة، وحتى نعومة بلدان اللجوء، الفرصة المناسبة لنجلس سوية مع ابو علي، حتى نعيد ترميم ذاكرتنا الانصارية. ذهب ابوعلي الشايب، وغادرنا بعد ان ترك تأريخا عطرا موشوما بالشجاعة والفداء والتضحيات.
ابا صادق سوف لا ولن ننساك.
شكرا سلفا للاضافات والمزيد من الصور