دور وتاثير الاجهزة الامنية والمخابراتية على حركة الانصار الشيوعيين في العراق
صدر الكتاب في بغداد عن دار الرواد المزدهرة والذي يتضمن مجموعة مهمة من المعلومات التاريخية الخاصة بالكفاح البطولي الذي خاضه الشيوعيون العراقيون لإحباط عدد لا يحصى من عمليات التخريب الداخلي والتجسس وإثارة البلبلة والفتن وإستهداف الوحدة الفكرية والتنظيمية، التي نفذها النظام العراقي السابق ضد الحزب الشيوعي العراقي، وحركة انصاره الباسلة التي خاضت كفاحاً مسلحاً ضد ذلك النظام وأزلامه ومرتزقته وجلاديه، أبان ثمانينات القرن الماضي.ننشر ماكتبه النصير الدكتور ابراهيم اسماعيل (ابو دجلة اعلام)الذي تابع صدور الكتاب وتفاصيله ،وكتب تمهيدا له.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ تمهيد
لم يعد ممكناً فهم وتحليل التاريخ المعاصر للعراق دون قراءة موضوعية ومحايدة لتاريخ الحزب الشيوعي العراقي، لما لعبه الشيوعيون من أدوار مهمة، سواء في تمثيلهم لأنبل الشرائح الاجتماعية، عمال بلادنا وكادحيها وشغيلة اليد والفكر، أو في قيادتهم للعديد من الإنتفاضات والوثبات الشعبية من أجل حرية الوطن وإستقلاله، أو في كفاحهم العنيد والمتواصل كي يستعيد المستضعفون أدميتهم المستلبة، أو في التناغم البهّي الذي خلقوه بين مكونات البلاد المتنوعة والصلابة التي منحوها للهوية الوطنية الجامعة.
وكما كان بديهياً أن تمنح تلك الأدوار، العراقيين المثقلين بالمآسي، إشراقة أمل لا تغيب، وأن تترك في أرواحهم وحكاياتهم، مذاق الفخر والغبطة، كان بديهياً أن يواجه الشيوعيون، طيلة تسعة عقود، أقسى ماعرف البشر من أساليب الإرهاب والقمع والإضطهاد والغدر، على أيدي طغم إرهابية وعصابات مأجورة تسللت لحكم البلاد وعمدت لتخريبها ونهبها، وأن يجترحوا مئات المآثر والبطولات وأن يعّلموا الزمان معنى الوفاء والتضحية والتضامن، وأن يعطوا لشرف الموقف والكلمة والوعد إشراقةً نادرة، ظلت ميّزة لهم ولحزبهم العتيد. ولهذا عُرف الحزب الشيوعي بأنه حزب الشهداء، لا كنوع من التغني بالموت أو سذاجة باحثين عن وهم مدن فاضلة، بل كأدراك لما يحمله هذا اللقب من جوهر إنساني عظيم و كإقرار منصف بقدرة أبناء هذا الحزب على التضحية بلا حدود، تلك القدرة المتأتية من الطينة التي جُبِل منها هؤلاء، وعلى إعادة بناء الحزب وإعلاء رايته الوطنية والأممية، وإفشال حملات القمع والإبادة التي وجهها له الفاشست طيلة تاريخ هذا الوطن المدمى.
في كتابه الجديد، والذي بين يديك عزيزي القارئ، يستكمل الصديق فيصل الفؤادي حكايته عن الشيوعيين، عن أولئك الفتية المسكونين بهاجس تحدي الخراب والصعاب وبعشق بلاد سُميت بالعراق، حكاية أنصار الحزب الشيوعي العراقي، وتجربتهم المتميزة أبان ثمانينات القرن الماضي، في مقارعة أعتى دكتاتورية فاشية عرفها العالم بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، حيث يستعرض الكتاب مسيرة الحزب قبيل قيام تحالفه مع سلطة البعث في عام 1973، وماحدث في السنوات الخمس من عمر ذلك التحالف، وكيف إنتقل الحزب الى الكفاح لإسقاط نظام البعث الفاشي وكيف واجه حرب هذا النظام ضده وأساليب التخريب المتنوعة التي إستخدمت في تلك الحرب وما رصد لها من ثروات وخبرات وتكنولوجيا.
ولعل أبرز ما يتمتع به الكتاب، كحكاية ممتعة وخارقة في بساطتها، قدرته على التعريف بفتية بسطاء، جياع وشبه عراة، نحتوا في الصخر عالماً حراً متوهجاً، واجهوا به زحفاً تترياً وقنابل خردل ومجرمين مدججين بالسلاح وبتقنيات متطورة، إنتهكوا بها وبدم بارد كل الحرمات.
كما يطرح الكتاب في ثناياه، سواءً عبر قراءة جلية للأحداث أوشهادات فاعلين بارزين فيها، حزمة من اسئلة، تثير شهية القارئ للبحث عن إجابات لها وفق قناعاته ورؤاه. فهو يطرح ذات التساؤل عن صحة التردد في إستلام السلطة عام 1959، وهل كان ممكناً أن يقبل الغرب نظاماً إشتراكياً في مركز الشرق الأوسط وفي أكثر البلدان ثروة نفطية، وهل كان بمقدور السوفيت أن يصونوا هكذا نظام بالقوة، أم إن قرار الحزب حينها قد جنّب العالم مثلاً أفغانياً مبكراً؟
كما نرى فيه دهشة وإمتعاض مشروع، من إتهام البعض للشيوعيين العراقيين بالتبعية لموسكو، وهم الذين رفضوا بإصرار، تعاويذ كهنة الكرملين الداعية لحل الإحزاب الشيوعية والذوبان في أحزاب "الديمقراطية الثورية"، وأجهضوا خط آب الذي تبناه بعض منهم، ممن أنصت بخشوع لأولئك الكهنة!
وعن أسباب فشله بإسقاط الحكومات الدكتاتورية الفاسدة، يبرز التساؤل عما إذا كان ضعف العامل الذاتي جراء الهجمة الإرهابية التي شنت على الحزب عام 1963، وخسارته لقيادته ومعظم كادره، خاصة خطوطه العمالية والعسكرية، ومن ثم تفكك وحدته بإنشقاق عام 1967، سبباً وحيداً أم إن العوامل الموضوعية كغياب وحدة الحركة الوطنية العراقية وتذبذب القيادة الكردية في مواقفها مع الحزب و مع السلطة وغيرها، قد لعبت الدور الأرأس في هذا النكوص؟
ويتساءل الكتاب بشكل خفي عما إذا كانت أجيال اليوم قد درست ـ بأناة الباحث عن الحقيقة وحكمة من يخشى تكرار المآسي ـ أحداث فترة 1964 – 1968، والتي كانت في تقديري أسوء فترات تاريخ الحزب ضعفاً، من الناحية العددية، حيث الكثير من الكادر في السجن وحيث إستشهد الالاف، ومن الناحية الفكرية حيث لم يكن هناك وضوح في الرؤية عما يجب أن يفعل، وفي الوحدة الحزبية حيث الصراعات بين الكوادر الشابة والمخضرمة وبين الجزعين والصبورين وحيث الوعي متدنِ والجزع متسارع والرومانسية الثورية طاغية ترنو لجيفارا سواءً قبيل إستشهادهأوبعد تلك المآثرة! وهل ساهمت إفرازات تلك الأيام في تآكل المعارضة الشديدة لقيام تحالف مع البعث الحاكم، وهل يحق لنا أن نحّمل فرداً، تراجع عن معارضته لأسباب غير خافية، مسؤولية كارثة حلت بالحزب، جراء ذلك التحالف؟
هل كانت قراءة دروس التجارب وتقييمها مفيدة ومحكمة، أم تتطلب دوماً تنقيحاً وتطويراً، لاسيما إذا ما وضع المرء حكمة غرامشي أمام عينيه وهو يقرأ تلك الدروس (نحن لا نخشى حين يكون الهدف بعيداً .. لكننا نخشى أن يكون الهدف غامضاً)؟
وأخيراً، هل لعبت الأخطاء وأساليب العمل التقليدية وغياب الروح النقدية وضعف المبادرة وعدم إتقان سماع الأخر وتزمت حراس المعبد ويقينهم بأن لا أحد غيرهم يمتلك الحقيقة، دوراً في نجاح خطط العدو التخريبية، وخسارة الحزب للعديد من رفاقه والكثير من معداته اللوجستية؟
وهكذا جاء كتاب الفؤادي، إستعراضاً سياسياً وتاريخاً مهما، لا يفتخر به الشيوعيون وحدهم بل وخيرة أبناء شعبنا، الذين يجددون اليوم ثقتهم بقدرة الحزب الشيوعي العراقي على تجاوز المحن، وإعادة بناء الهوية العراقية الجامعة وإقامة مجتمع سياسي مستقر خالي من العنف والفوضى، مجتمع الحرية الحقيقية والعدالة الاجتماعية.
أمتعني كتاب الصديق الفؤادي وعرّفني بالكثير مما كان غائباً عني، فله تحية على هذا الجهد النبيل، ولقلمه مزيداً من التألق.
أ.د. إبراهيم إسماعيل
مالمو ـ شباط 2020