في زحمة الأحداث العاصفة التي خيمت على العراق في أواخر عام 1976 وبداية عام 1977، حيث سادت اجواء الملاحقات والاغتيالات والاعتقالات التي باشرت بها السلطة الحاكمة في العراق لتصفية الحزب الشيوعي العراقي، إذ بدأت بضرب تنظيمات الحزب في المحافظات الجنوبية والفرات الأوسط ثم في بغداد وبطريقة تعيد الى الاذهان تأريخ البعث الدموي الذي دشنهُ في شباط الأسود عام 1963 حيث سُفكت دماء الوطنيين من الشيوعيين والديمقراطيين على ايدي قطعان الحرس اللا قومي المجرمة
في هذه "الأجواء الملبدة بالغيوم السوداء" على حد تعبير الرفيق ابو صادق- أبو علي الشايب- كما أعتدنا نحن الأنصار تسميته، "ََكَاطع الساعدي"، والذي كان مسؤولي الحزبي آنذاك بعد أن رُحلت الى تنظيمات مدينة الثورة بعد انتهاء الخدمة العسكرية، وفي لقاء حزبي قرب كَراج النهضة، بادرني الرفيق ابو صادق بالسؤال عندك جواز؟، فوجئت في حينها، ولم اعرف مغزى السؤال، وبدون تفكير اجبتهُ: ((لا، لكن ما كو مشكلة اكدر اسوي جواز))، فرد عليّ فوراً ((طيب رفيق اشتغل عليه وبسرعة، انت راح تسافر للدراسة، ولكن لا أعرف ان كانت في موسكو أو المانيا))، ثم سألني مازحا، أنت شنو تختار؟ اجبتهُ وعلى الفور ((موسكو طبعاً، بلد لينين ومهد ثورة اكتوبر وبعبارات نابعة من الاندفاع الثوري الرومانسي لشاب في مطلع العشرين من العمر)).
انتهى اللقاء وقد شدّد الرفيق أبو صادق على سرية الامر، وكرر قولهُ (عليك انجاز الجواز بسرعة). لا استطيع وصف مشاعري وانا استلم هذا التوجيه، واختلطت عندي مشاعر الفرح بمشاعر التحدي، إذ ليس من السهل الحصول على جواز، لكني قمت باللازم بعد عدة مراجعات، ثم رتب لي لقاء مع الرفيق جاسم الحلوائي (ابو شروق) في مقر الحزب تحدثنا فيه عن امور تخص المهمة.
سافرت الى موسكو، إلا أن كياني كلهُ كان مشدوداً الى الحزب والوطن. انقضت سنتين ونصف، ونحن نتابع تطورات الوضع السياسي في داخل الوطن وهو يسير من سيء الى اسوء، ولكي تكتمل فصول الجريمة رتبت المسرحية الدموية، أو مجزرة الخلد في 22 تموز 1979 التي اطلقت يد المجرم صدام، هذا الى جانب التحول الجذري في العلاقة بين نظام البعث والحزب الشيوعي العراقي، واستمرت الهجمة الشرسة والتصفيات الجسدية لحزبنا ورفاقنا في عموم العراق، وصار الخيار الوحيد أمام الرفيقات والرفاق هو الحفاظ على شرف الانتماء والوفاء للمبادئ التي آمنوا بها.
وهكذا بدأ العديد من الشيوعيين بالخروج من العراق، مستخدمين مختلف الوسائل ومسجلين اروع المآثر البطولية للتخلص من بطش الاجهزة الامنية حيث وصل الكثير منهم الى مختلف بقاع العالم، إلاّ أن الغالبية توجهت الى لبنان، والتحقت بمنظمات المقاومة الفلسطينية المختلفة وكان من نصيبنا نحن العائدين من موسكو ان نحصل على دورة عسكرية في صفوف الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين، وكان لهذه الفترة طعمها الخاص الذي سيبقى عالقا بالذاكرة.
حانت ساعة التوجه الى الوطن، في اجواء من الحماس الثوري والرومانسي لتحقيق حلم الشيوعيين في وطن حرار وشعب سعيد، وكان الرفيق كريم احمد الذي يتابع تدريبنا العسكري، يبث فينا العزيمة والاصرار وكان يخبرنا أن رفاقنا بالداخل يستبسلون في مقاومة الدكتاتورية ويتحدون الصعاب. فوصلت مع مجموعة من الرفاق الرائعين الى مقر (كوماته) في سبتمبر عام 1979، وفي لهفة اللقاء بالرفاق الذين وصولوا قبلنا بفترة قصيرة قادمين من بلغاريا وغيرها وكان عددهم 15 خمسة عشر رفيقاً، وإذا بالرفيق ابو صادق ابو علي يستقبلني بالأحضان حينها طرت من الفرح وهمس لي بجملته الأثيرة التي ودعني بها في بغداد قبل سفري "مو كتلك الجو ملبد بغيوم سوداء"، وأضاف "وها نحن هنا نتيجة العاصفة"، وهذه أشارة الى أننا كنا نتلمس تدهور الأوضاع يومياً.
بعد اللقاء الحميم بالرفاق في (كَلي كوماته)، وجدت أنّ علينا استكمال بناء قاعات جديدة وجلب الخبز من مقر (حدك) الملاصق لمقرنا، في ذلك الوقت لم يكن لدينا سلاح، ثم حصلنا على قطعة واحدة وهي (بندقية بور سعيد) قديمة جداً، وهكذا كانت البداية، ثم توالى وصول الانصار، وتدفق السلاح تباعاً وأصبح المقر يشع بالطاقات والكفاءات الخلاقة من أدباء وشعراء ومسرحيين ومصورين وأساتذة ومحامين وأطباء، وبدأ عالمنا الجديد يتسع، حيث أُسست مقرات جديدة، وانتشرت مفاوزنا في كل مكان، وعاد الحزب شامخاً، وسقط حلم العفالقة في القضاء عليه.
* عن دورية (النصير الشيوعي ) العدد صفر - تموز 2021