بعد هروبنا المثير من حدود بعث العراق الى بعث سوريا ،لم نبق في دمشق سوى بضعة أيام .عرفنا أن مقرنا الأكثر إستقراراً سيكون لبنان، لتكون بيروت المحطة الأولى خارج حدود العراق و النزهة الإجبارية الأولى بإتجاه بلاد لاسلطة لصدام عليها .كان ذلك بحد ذاته كافياً وقتذاك لكي يشعر المرء بسعادة من نوع ما. من مخيم "اليرموك" حشرنا أنفسنا، ابو فيروز، ابو عراق الدفاعي، مازن ورافد وأنا وبضعة آخرين غرباء، في جوف سيارة جيب عسكري ، لتلقينا بعد ساعة على الحدود ومن هناك طولبنا بإستعراض خبرتنا بالمشي عبر مرتفعات وتلال. أوصانا دليلنا أن ندّعي ،في حالة التعرض لتفتيش دورية الحدود،  أننا من فصائل المقاتلين الفلسطينيين ننوي العودة الى قاعدتنا في العرقوب وكنت أنا أحمل هوية فلسطينية، و بإسم حازم سمير، و يوصف لون شعري فيها بالخرنوبي "..

بعد ساعة قيل لنا أننا دخلنا حدود لبنان وإنتظرنا سيارة جيب اخرى لتبدء رحلة الجمال والسحر..

عندما كانت سيارة الجيب تتسلق طرق "عالية" و"بحمدون" الملتوية، كنت كمن يرى فيلماً ، كانت الطبيعة مبهرة، من حولنا الجبل وبيوته القرميدية تطل بشرفاتها الصيفية المزهرة بالنحل والموسيقى، وتحتنا الوديان الخضر ، قلت لمن معي أن الحرب في هذه البلاد جريمة مهما كان سبب نشوبها. كان جدري الحرب المخيف قد خرّم المباني الحجرية لكنه لم يتمكن من تقبيح وجه "عالية" الجميل الذي كان يشع رغم كل شئ . 

شدتني بيروت ولبنان كلها اليها بكل قوة، الآن أدركت من أين تأتي فيروز ورحابنتها بكل هذا الشدو الرائع، كل شئ كان جديداً لم أره من قبل، الطبيعة بجبالها، وتلالها، وبحرها، وهوائها، وضوع أشجار الصنوبر، أشجار الخرنوب واللون الخرنوبي الذي أسمع به لأول مرة، الناعمة حيث إطلالة الجبل المغطى بالغابات الساحرة على إندياح البحر الفسيح، تكٌسر الصنوبر الجاف وهو يرتطم بالأرض ويتدحرج على التلال ليصل أقدام المارة ، النحل المتطاير بدل الذباب، مفردات الحياة البيروتية : ربطة الخبز الأبيض،"قرقورك يابديعة أكل كل الزريعة.." اللهجة التي لاترهق اللسان وتترك له حرية التجوال " يسلمو دياتك "، عالية وبحمدون والقرى التي تتسلق الجبال بقرميدها الأحمر، الشوف وأحراش عرمون الغافية على قهقهة طيور الحجل، ميناء جونية الذي يلوح من بعيد ، البحر ومدفعية سعد حداد، قاعة جمال ، بناية رحمة، الفاكهاني، جسر الكولا، الرملة البيضا، البربير، الملعب، الروشة، مطعم أم نبيل، الدامور ،شتورا و ظهر البيدر، ياسر عرفات حين يخطب فيعدل عقاله فتعصف القاعة بالتصفيق!

وصلت بيروت صيفاً فاستمتعت لأول مرة بصيف في أيام إحتراق العراق تحت أشعة شمس لاتعرف الشفقة،وعشت الخريف الأكثر إبهاراً  فرأيت ولادة الأنهر الموسمية التي تبدأ فجأة بعد مطر تشريني غزير، ثم دلف الشتاء بموعده فهطل الثلج الذي رأيته أول مرة مساءً  وقت حراستي في موقع " عين العرب" في "البقاع الغربي" ثم ودعت البلاد في نهاية الربيع !

أكثر من أي شئ آخر، مثل طائر تحرر من قفص، دُهشت من الحرية التي تمنحها بيروت رغم بقايا الحرب الأهلية، الحرية في أن تطيل شعرك أو تقصره، أن تختار الإسم الذي تريد، حرية أن تذهب للزيتونة على مسؤوليتك الخاصة مع إحتمال أن يصطادك قناص الكتائب، أن تعرج على سينما "بافيون" فتشاهد أفلاماً لم تكن تحلم حتى بوجودها، أو أن تتسكع كما في الأفلام على شواطي الروشة. كانت الأيام الأولى حرة غير مقيدة. أيام قلائل فقط، بعدها وعينا اننا لسنا سواحاً، فلا جواز سفر، ولا أكثر من خمس ليرات في الجيب ! عندها همس باذني أحدهم: ما أجمل أن نبقى هنا؟ أن نتابع الدراسة في الجامعة الأمريكية؟ ما رأيك أن نجرب ذلك؟ لامست كلماته وتراً حساساً بأعماقي ، فأنا منذ ان أنهيت الخامس العلمي بتفوق وأعفاء من إمتحانات نصف الدروس لم أشعر باستقرار أبداً، تخرجت ودخلت كلية الهندسة لكني كنت طالباً بالأسم ، مطارداً بتهم ثقال لا أعرف متى تخطفني ذراع "محكمة الثورة". تركت صاحبي غارقاً بأحلامه وإنتظمت في صفوف التدريب العسكري المكثف في تلال بلدة "الناعمة" .

تحت خيام "الناعمة" ، كنا نعيش الثورة كما عاشها جيفارا، تدريب وقراءة، كان "مارسيل خليفة" يغني لنا عن خبز أمه، وكنا مبتهجين بقراءة الكتب على ضوء مصابيح البطاريات، مشغولين قبل كل شئ بالكتب الممنوعة في العراق ، كتب  "صادق جلال العظم" ونقده للفكر الديني، والنزاع لايهدأ على من سيأتيه الدور ليقرأ "النزعات المادية" لحسين مروة،  وكتب مهدي عامل تنتقل من يد لأخرى. كان هذا هو تماسي الأول الواسع مع العرب من غير العراقيين، تيقنت خلاله من كبر حجم معاناة الفلسطينيين المتأتية أصلاً من لعنة فقدان الوطن وهو مركب شديد الخصوصية سينعكس لاحقاً على مجمل سلوك المرء. ولعل التأثير النفسي لفقدان الوطن يفوق بآثاره تأثير فقدان الأب أو الأم في مرحلة مبكرة من العمر، في حين كان جرحنا الأساس هو بحثنا عن الكرامة التي أُهدرت في وطننا الذي لم يكن قد ضاع بعد ، لهذا كان الفلسطيني يصطدم بالحساسية العالية للعراقي، حساسية لم يكن يستوعب موجباتها. حين تقدمنا لاحقاً في رحلتنا بإتجاه فقدان الوطن إقتربنا خطوات من "سايكولوجيا الغجر" وهم الذين ضيعوا قبل الفلسطينيين وقبلنا وطناً حتى أنهم نسوا مكانه. 

بعد شهرين رأيت صاحب عرض "الجامعة الأمريكية" فجراً يحمل دلو ماء و ينزل به الى أسفل الوادي ضمن فصيل آخر من المتدربين فمازحته في الظلام: تخرجت من الجامعة الأمريكية بهذه السرعة؟

عانقني بحرارة و جلسنا بعدها على أنفراد فقلت له: أتعرف أنني هربت منك ومن عرضك المغري؟ لأنني منذ ان تحررت من المعتقل قبل نصف عام أشعر كأن شيطاناً يجول ببدني، كل أجهزتي تشتغل بنصف طاقتها، مفاصلي تئن ...سأل بخفوت: هل أجبروك إذن على التدريب؟ قلت: كلا أبداً ، لم يجبرني أحد لكني أريد الأنتقام، أنا الآن لا أصلح الا للأنتقام!  

في بيروت ..سمعنا خبر إزاحة "صدام" ابيه القائد "أحمد حسن البكر" كما كان يسمى وتنصيب نفسه دكتاتوراً أبدياً على البلاد..ها هو "صدام" الآن قد وصل القمة التي أراد بلوغها منذ أن بدأ ممارسة عبثة الدموي في الخمسينات.القمة التي كان معظم العراقيين قد تحدثوا عنها في نهاية الستينات .كيف وصل ؟ ماهي مهامه اللاحقة؟ ماالذي سيفعله بالعراقيين؟ بعد أيام ذبح صدام نصف قيادته الحزبية بتهمة لم تكن بحاجة الى من يصدقها: "المؤامرة على الحزب والثورة"...