إنّ قرار الكفاح المسلح الذي اتخذه حزبنا، من أجل التصدي للهجوم الشرس الذي شنه النظام الدكتاتوري على رفاقه ومنظماته وبقية القوى الديمقراطية والكوردية التي كافحت من أجل حقوق الشعب الكوردي المشروعة، إعتمد على صلابة أكتاف الأنصار الشيوعيين الشباب وإرادتهم الفولاذية في مجابهة قوات النظام وجحوشه، فخاضوا من دون تردد أشرس المعارك وأخطرها، وقدّموا التضحيات الكبيرة في سبيل أهدافهم النبيلة. كما تصدى الأنصار بأجسادهم وصبرهم وعنادهم لجميع الظروف الطبيعية والنفسية، فتحملوا البرد والجوع والثلوج والعواصف والتضاريس الجبلية الوعرة والوحشة وألم الفراق عن الأهل وغير ذلك الكثير.

  لكن الحركة الأنصارية، وبكل تأكيد، كانت بحاجة إلى وسائل أخرى لديمومتها وزيادة فاعليتها، وكان من أهم وأبرز تلك الوسائل هي وسيلة النقل، ولما كانت طبيعة كوردستان وخصوصا المناطق النائية والمعزولة منها والتي إحتضنت قواعدنا ومقراتنا تتميز بوعورتها الشديدة وعدم وجود طرق مواصلات فيها، كان لابدّ من  الإعتماد في هذا الجانب على (البغل) بإعتباره الواسطة الأهم للنقل الجبلي الذي يمكن إعتباره سفينة الجبل، كما يصطلح على الجمال بإعتبارها سفن الصحراء.

ولمّا إنتشرت قواعدنا الآنصارية ومفارزها في أغلب مناطق كوردستان، برزت الحاجة الماسة لإستخدام هذا الحيوان الأليف، ولذلك فإنّ جميع مقراتنا حرصت على الاحتفاظ بعدد منها حسب حاجتها، علاوة على المفارز التي كانت بحاجة ماسة إلى خدماتها. ومن الجدير تأكيده، انّ الحاجة الى البغل تزداد كلما إشتدت وعورة الجبال، بعكس المناطق السهلية التي كان الأنصار يتحركون عليها مثل أربيل ونينوى، حيث تتوفر إمكانية إستخدام العجلات والمركبات التي يصادرها الأنصار من قوات النظام ودوائره الأمنية أو غيرها من المصادر. 

 ولأهمية البغل في نقل المواد الغذائية والسلاح والجرحى والمرضى إلى المقرات والقواعد الأنصارية لمسافات بعيدة، فإنّ العناية به وحسن استخدامه كان بحاجة إلى تنظيم، وعليه كانت في غالبية المقرات حظائر يتولى مسؤوليتها أنصار أكتسبوا المزيد من الخبرات في التعامل مع البغل وترويضه.

 وفي هذا الصدد يقول النصير أبو نسرين (مؤيد بهنام): 

((لم أسمعها منه شخصيا، لكن رويت عن ذلك القائد الحزبي_الأنصاري على مسامعي أكثر من مرة، من قبل العديد من الرفاق الذين عاصروه من قبلي :

- أن من لا يعرف شد كرتان بغل... لا يمكن ان يصبح نصيرا أبدا. !  والكرتان باللغة الكردية هي الحمالة (الجلال) التي توضع على ظهر البغل.

  ويواصل النصير أبو نسرين القول: لكني شخصيا لم أتعلم شد الكرتان على البغال فحسب وإنما تعلمت وتمرست إلى حد ما في معاملة البغال بمرور السنين، مثلي مثل الكثير من الرفاق. وكان ذلك من الواجبات الأساسية والمهمة في حياة الأنصار لأنها بدون بغال ستكون صعبة وعسيرة وشاقة إذا لم تصبح شبه مستحيلة. فالبغال في الجبال ضرورة لا مندوحة عنها. وكان الراحل أبو نادية مسؤولا عن حظيرة البغال في مقر قاطع بهدينان. والرفيق أبو نادية للذين لا يعرفونه هو مهندس معماري جاء إلى كردستان من ايطاليا، تاركا زوجته الإيطالية، وابنته نادية التي كان يموت حبا فيها، وكلما جاء ذكرها ترقرقت الدموع في عينيه، ومنه تعلمت أن لكل بغل شخصيته المتفردة وأنه بحسب ذلك تتباين معاملة البغال مع سائسها. وليس من دليل أفضل على هذه الحكمة غير بغل مقرنا المميز انذاك (حمى كوزي))).

أمّا الرفيق أبو عادل (فارس زهرون حبيب) كتب تعليقا حول البغل  قائلا: ((كلما كنّا نحاول تهدأة البغلة (سجودة)، كنّا نفشل، لم نكن نحن أغلب الرفاق قادرين على تحمل رفساتها وعضاتها الاّ الرفيق المسؤول عن رعاية الحظيرة، والذي كان إن لم تخني الذاكرة الرفيق عوله مينه وهو رفيق رائع من بشدر، إنه فلاح بسيط  ومن أوائل الملتحقين في نوزنك، ومن ثم ساهم مع فصيل بشدرفي إنشاء سرية بشتاشان. كان هذا الرفيق يعرف كيف يروض سجودة، حيث ربطها ذات مرة  في ساحة قريبة من مقر الفصيل، ووضع على ظهرها أكياس من الطحين أكثر من تحملها، كانت سجودة تعارض على طريقتها، ولكن الرفيق عوله كان يعاملها بخشونة مع  حزمة من شتائمه المتميزة لصدام وسجودة!، وتركها واقفة لساعات حتى تصبب العرق منها وتعبت وهدأت، بعدها أنزل حمولتها وأطعمها، ومن ذلك اليوم أصبحت سجودة أكثر هدوءا ... وعلى أثر نجاح هاوري عوله في ترويض سجودة، كافأه الرفيق الشهيد مام رسول بقدح شاي، وتعهد له بأنه سيبحث له عن زوجة... كان الرفيق عوله  أعزب وفي الأربعين من عمره، وكان هم جميع رفاقه في بشدر أن يتزوج)). 

لابدّ لي أن أنوه الى انّ غالبية البغال في الحركة الأنصارية إكتسبت أسماء شخصيات سياسية أو تاريخية او رياضية أو غيرها يطلقها الأنصار وفق معايير معينة. فالبغال التي تتميز بخصال إيجابية من الذكاء والطاعة والتحمل وخفة الحركة، كانت تكنى بأسماء شخصيات إيجابية، أمّا تلك التي تتميز بخصال سلبية وتعاند وترفض الحمل وترفس وتعض، فلها أسماء أخرى!.  

 وفي هذا الصدد يقول النصير أبو ماجدة: ((دأب الشيوعيون في حركة الأنصار في كردستان على اطلاق تسميات ل اتخلو من الفكاهة أو التحقير أحيانا على بغالهم التي يستخدمونها كوسيلة نقل فعالة في الجبال، ومن بين تلك البغال مثلا بغل كان اسمه (خميني)، كان قويا وله قدرة عالية على التحمل، وقد خُصص لخدمة القائد الأنصاري (توما توماس) الجثم والطويل القامة، وأُخرج هذا البغل عن الخدمة بعد أن شاخ، ومُنح حق التقاعد والتجول بحرية بين المقرات!. بغل آخر ضخم وأبيض اللون كان اسمه (ريكَان) ، تعرّض هذا البغل الى اصابة في رجله أقعدته خلال تعرض مفرزة أنصارية الى كمين للقوات التركية على جبل عادل بك، وتُرك طليقا في دشت براز، واستمر (ريكَان) وفيا لمفارز الأنصار، حيث كان يرافقها على قدر استطاعته ذهابا وايابا عند مرورها عبر هذا الد ه شت متجهة الى منطقة لولان على الحدود الايرانية. وقد أطلق الأنصار على أحد البغال اسم (حسن الكاشف) الفلسطيني الأصل تحقيرا لمراسل بغداد من باريس خلال الحرب العراقية الايرانية، والذي كانت تقاريره هزيلة وتُمجد وتمتدح النظام. ومن بين البغال المثيرة للاعجاب، بغلة تجمع بين القوة والذكاء والجمال اسمها (نامليت) ونظرا لهذه الخصال، كان الفلاحون في المنطقة معجبين بها، وكانوا يعرضون مبالغ مضاعفة بغرض شراؤها)).

وبودي أن أضيف، ارتباطا بعملي في قيادة بعض منظمات ريف تلكيف كنت أساعد بقدر معين الرفيق أبو خدر الذي كان ينقل بريد المكتب السياسي بين سوريا عبر سنجار إلى كوردستان وبالعكس من خلال نفس القرى التي كنت أعمل فيها. ولمّا كان البريد يحتوي في أحيان كثيرة على كمية كبيرة من الوثائق التي يصعب حملها على الظهر لمسافات بعيدة من دون تعب وعرقلة، وخصوصا بعدما تعرض أبو خدر إلى انزلاق شديد في فقرات الظهر، فعرضت على الرفيق الفقيد أبو يوسف الذي كان يقود منظمة إقليم كوردستان، وكان وسيطا بيننا وبين (م.س)، أن نشتري حصانا يساعدني في الوصول إلى سهل نينوى لكي أجلب على ظهره البريد وأبو خدر الذي يعاني من ألم فقراته، فوافق أبو يوسف واشتريت حصانا، ولقلة خبرتي ظهر انّ الحصان طاعن في السن، لكنه بالرغم من ذلك أدى مهمته بشكل جيد. وذات مرة نقلت البريد الى كافيا وسلمته للرفيق الفقيد أبو يوسف، وأثناء وجودي هناك، هطلت أمطار غزيرة فاضت على أثرها كل الوديان، فأضطريت ان أمكث في كافيا لعدة أيام أخرى، ثم جهزت الحصان وحملت ما يكفيني من طعام متوجها إلى مرانى، رغم نصيحة الفقيد أبو يوسف بالبقاء حتى تتضح الأمور بشأن الفيضانات في الوديان الواقعة في طريق عودتي إلى مرانى، ولكني عزمت على مغادرة كافيا، فإمتطيت ظهر حصاني الذي عانى كثيرا من الخوض في الأطيان.

 في الطريق صادفت كرونجية ذاهبين بنفس الاتجاه، ومنهم تعلمت كيف أتجنب الطرق الفائضة وأصل إلى المنطقة الآمنة، فكانت المحطة الخطرة والأخيرة هي روبار قرية شكفتى الهادر والهائج بشكل مرعب، وفي مكان ضيق منه، وضعوا عمودين لعبوره، فحزمت البريد بأكياس من البلاستك وربطته بشكل جيد على ظهر الحصان ووجهته مع عدد آخر من بغال الكرونجية لعبور النهر من مكان أهدأ، ورغم الخطورة، فقد عبر حصاني مع البغال التي بدت كزوارق صغيرة تتأرجح وهي تخوض في نهر هائج. 

وفي يوم صيفي حار، وقريبا من مقر كافيا، توقف حصاني، ثم وقع أرضا فاقدا حياته، وتركني حائرا وحزينا، وخاصة أني لم أستطع فعل أي شيء من أجل انقاذه. بقيت في حيرة، كيف لي أن أحمل ما كان يحمله الحصان، لكن مرور عدد من الكروانجية بالصدفة أنقذ الموقف، فتبرعوا لمساعدتي بحمل البريد على ظهر أحد بغالهم، وتركت جثة  الحصان وكورتانه هناك، وفي اليوم الثاني ذهبت لاستعادة الكورتان، وبعد يومين اشتريت حصانا آخرا ، كما مبين في الصورة أدناه، ولكنه كان كسولا، قمت ببيعه بعد عدة مهمات بريدية.