لقائي الاول به كان عام ١٩٧٤ في مطبعة دار الرواد في بارك السعدون حيث كانت تطبع جريدة ”طريق الشعب“. يومها كنت في مختصة للعمل النقابي لذوي المهن الطبية والصحية. وفي واحدة من اجتماعات المختصة حينها صغنا مذكرة الى نقابة الاطباء مطالبين إياها بالتدخل لاطلاق سراح "زميلنا دكتور فارس رحيم" من معتقلات الديمقراطي الكردستاني في منطقة حلبچة، حيث كانت علاقة البارتي بحزبنا حينها تمر بواحدة من أسوأ اوقاتها.
ونحن متوجهون من ساحة الواثق في العلوية الى مقر النقابة في المنصور استأذن زميلنا د. غالب العاني للمرور الى المطبعة لانجاز مهمة سريعة له هناك. خلال جلوسنا في غرفة الضيوف دخل علينا عبد الرزاق الصافي، مترجم (القاموس السياسي) ورئيس تحرير حبيبتنا الجريدة، بقامته الفارهة ووسامته المعروفة باسما مرحبا، وجلس ليشرب الشاي معنا، حين عرف بمهمتنا ابتسم وقال: يؤسفني اني ساريحكم واوفر عليكم عناء الذهاب الى نقابة الاطباء التي لا علاقة لها بالموضوع!، فدكتور فارس رحيم هو ليس طبيبا بل من الكوادر الطبية الوسطية، لكن العادة في كردستان، خصوصا في اريافها ان تطلق صفة الدكتور على كل من يرتبط عمله بمستشفي او مستوصف ويرتدي الصدرية البيضاء. وهكذا اجهض ابو مخلص في اول لقاء لي معه مهمتنا الحزبية المهنية، التي سيكلف بها زملاء آخرين من نقابة د. فارس.
لقائي الثاني به مع مجموعة من الاصدقاء كان عابرا ايضا، وكان هذا في اوائل الثمانينيات في المركز الثقافي السوفيتي في دمشق حيث كان مهرجان لاسبوع الافلام السوفيتية.
بعد ذلك كرت سبحة لقاءاتنا واتصالاتنا في دمشق، ومعها توطدت علاقاتنا ببعض. وماأزال اذكر وصيته وهو يودعني لحضور اول تمثيل رسمي لي للحزب في اجتماع للاحزاب الوطنية والقومية التقدمية العربية عن ”الوحدة العربية“ في ليبيا؛ قال لي وهو يصافحني؛ لا تبخل باستخدام لقب ”الدكتور“، لمصلحة الحزب وليس لمصلحة شخصية، وتصرف بأعتبارك ممثلا لواحد من اهم الاحزاب المساهمة في المؤتمر..
خلال العقود التالية ورغم توطد علاقتنا الشخصية والعائلية حتى بتنا صديقين بقدر ما نحن رفيقين لا بل اكثر احيانا، لكني حتى اللحظة لا استطيع ان اتعامل معه الا تعامل استاذ تتلمذت على كتاباته ومواقفه وتواضعه وسلوكه الانساني الجميل، وباعتباره واحدا من اعمدة الحزب ورجاله الموصوفين على مدى عقود.
رفقتي له وعملنا المشترك في الجبل وشقلاوة في النصف الثاني من عقد الثمانينيات وكامل عقد التسعينيات حتى عام ٢٠٠١ مليئة بالتجارب والدروس السياسية والاجتماعية والانسانية، التي يمكن كتابة مئات الصفحات عنها.
ربما الكثير من الاصدقاء يتذكرون كيف ان عبد الرزاق الصافي كان ضمن آخر الشيوعيين الشجعان الذين واصلوا في ربيع عام ١٩٧٩ العمل لمواصلة إصدار ”طريق الشعب“ بشجاعة الفرسان في تلك الظروف البوليسية السوداء. كما اظن ان قصة تمويه تحركاته على رجال الامن الذين كانوا يلازمونه كظله في بغداد في تلك الايام المدلهمة بالخطوب، واختفائه عنهم في اليوم الاخير للملاحقة، هذه القصة معروفة للكثيرين. ربما يكون فصلها الثاني الذي تمثل بظهوره المفاجيء في افغانستان، بعد غيبته في بغداد هو المجهول بالنسبة للكثيرين منا.
كثيرة هي الاحداث والمفارقات التي يمكن سردها عن ابو مخلص من قبل الذين رافقوه وزاملوه خلال العقود العديدة من حياته، وهي لوحدها بحاجة الى كتاب جديد الى جانب ما اصدره من مذكراته السياسية التي ضمنها بداية تكوينه السياسي في مدينته كربلاء، ثم نضالاته في عقد الخمسينيات في بغداد والبصرة واعتقاله وطرده من كلية الحقوق في حينها.
يعرف كل من عمل مع أبو مخلص كيف ان القلم هو رفيق ملازم له حتى عندما يذهب الى النوم، ويبدو ان هذه الظاهرة جاءت من رئاسته لتحرير الجريدة سنوات طوال و اذاعة ”صوت الشعب العراقي“ السرية، ومسؤوليته في قراءة كل ما ينشر فيها وتاشير هذه الموافقة على المقال.
ويلفق عليه محبوه حكاية تقول ان احد الشباب دخل عليه ذات يوم في غرفة التحرير ووضع امامه ورقة الى جانب كومة الاوراق على منضدته، فما كان من ابو مخلص الا ان سحب الورقة ووقع عليها بقلمه الاحمر واعادها الى صاحبها قائلا خذها للمطبعة..!، فرد عليه الشاب: اي مطبعة رفيق؟، هذا وصل أجور الكهرباء جاءوا به قبل قليل..!
يبقى عبد الرزاق الصافي من الرجال الذين لا يمكن الا ان تحبهم وتحترمهم، مهما اختلفت معهم، وتبقى تتذكرهم مهما ابتعدت عنهم.
حكايات متفرقة سمعتها من الرفيق ابو مخلص
"خَبَر جَنّازة"
-"خبر جنّازة". هكذا قال صديقي ومعلمي عبد الرزاق الصافي (ابو مخلص) ونحن نتابع عبر شاشات التلفزيون نشرة للاخبار المحلية عندما قرأت المذيعة الحسناء خبرا بدا مشوشاً وعصي على التصديق، إبتسمت وقلت: خبر جنّازة؟!، هذه اول مرة اسمع بتركيبة هذا المضاف والمضاف اليه.. ابتسم وقال:
- هذا تشبيه معروف في النجف بشكل خاص، وعندنا في كربلاء الى حد ما. قلت اكيد هناك حكاية وراء هذا المثل. أجاب بالتأكيد هناك حكاية وهي مرتبطة بمقبرة وادي السلام، التي تردها نعوش الموتى على مدار اليوم من مختلف مدن العراق، عدا مايصلها من دول أخرى.
واصل ابو مخلص حديثه؛ الجنّازة الوافدين من مختلف المدن والاصقاع عادة ما يلتقون في المقبرة والمقاهى والمطاعم والاسواق ويتبادلون الاخبار والقصص عن ديارهم وما صادفوه خلال سفرتهم، كل بطريقته وحسب استيعابه واجتهاده وفضاءات مخيلته وقدرته على القص وسرد الحكاوي، لهذا عندما يجري تناقل هذا الكشكول المتنوع من القصص والحكايا بين الناس ويضيف الناقل شيئا على الخبر من عندياته او يحذف منه حسبما تسعفه في ذلك ذاكرته ومخيلته أو مزاجه، يصبح الخبر في النهاية كالسجادة المستهلكة، التي لا تعرف وجهها من قفاها.
..........................
فرس، محطة، حسين، يركب..!.
كلمات سمعتها كثيرا من الصديق عبد الرزاق الصافي، يوم كان رئيسا لتحرير جريدة “طريق الشعب”. كنا نحن هواة الكتابة الصحفية كثيرا ما نسهب اثناء كتابة عمود صحفي في تحميله بكل ما نعرفه من تفاصيل عن الموضوع، حتى تلك الصغيرة التي لا اهمية كبيرة لها.
كان ابو مخلص بعد ان يقرأ العمود يسأل: هل تعرف قصة “فرس، محطة، حسين، يركب.”، وحين ياتيه الجواب بالنفي يبدأ بقص الحكاية:
(بداية القرن الماضي وفي السنوات الاولى لدخول القطار الى العراق، رغب "حسين بيگ) احد وجهاء البصرة العودة اليها من بغداد، بعد ان امضى اجازة ممتعة في العاصمة. في دائرة البريد كتب صاحبنا برقية مطولة لعائلته اخبرهم عن تاريخ عودته، وطلب من ابنائه استقباله في محطة المعقل بصحبة فرسه ليركبه في طريق العودة الى البيت. وحمل الوجيه البصري برقيته بعبارات التحية للاهل والاصدقاء والجيران ذاكرا اغلبهم باسمائهم، وبسيل من الاسئلة والاستفسارات عن احوالهم واخبارهم.
وحين قدم صاحبنا برقيته لموظف البريد بدأ الرجل بحساب عدد كلماتها كي يحدد اجور ارسالها، حين انتهى الموظف من الحساب اخبر البيگ البصري بالاجور الواجب دفعها. كان المبلغ كبيرا جدا الى الدرجة التي اثارت استغرابه وتساؤله عن سبب ذلك. اخبره الموظف ان الاجور ترتبط بعدد الكلمات، (وانت كاتب رسالة وليس برقية). سحب البصري ورقة البرقية وراح يختصر كلماتها ويحذف جملا كاملة منها. وحين اكمل اختزال البرقية دفعها الى موظف البريد باربع كلمات فقط ( فرس، محطة، حسين، يركب....)
هكذا في كل مرة بعد ان ينهي العزيز ابو مخلص حكايته يعيد المقالة الى صاحبها ويطلب منه اعادة كتابتها على طريقة (صندوق امين البصرة).
..............................
في ذكراها الـثامنة والتسعين، ثورة العشرين ... أرعش ما أرعش هذا آنه..!!
من الصديق المخلص "أبو مخلص" عبد الرزاق الصافي سمعت هذه الحكاية لأول مرة.
حين حاول احد العسكريين البريطانيين التقليل من شأن شعلان ابو الچون مستغلا معاناته من ارتعاش في راسه خاطبه (نحن لا نخاف من رجل خائف يرتعش)، أجابه ابو الجون وهو العارف بالهوسات العراقية والكاتب لها: (أرعش ما أرعش هذا آنه).
هناك رواية اخرى لهذه الاهزوجة تنسبها الى شيخ عشيرة آخر أسمه شعلان العطية.
وهذه الهوسة تشبهها هوسة للشيخ عبدالواحد الحاج سكر من الشيوخ المشاركين في الثورة: (تندار الدنيه وهذا آنه).
**********