كتب العديد من الرفاق عن تجارب انسحابهم من مقراتهم في المناطق المختلفة من ارجاء كوردستان إبان عمليات الانفال سيئة الصيت التي قامت بها جحافل الديكتاتورية المقيتة، حيث ارتكبت ابشع الجرائم، من حرق للقرى والمزارع وقتل للأطفال والنساء والشيوخ، وتهجير مئات الآلاف من أبناء شعبنا الكوردي وأبناء الأقليات القومية من إيزيديين ومسيحيين وأسرهم واحتجازهم في مجمعات قسرية لينتهي بهم المطاف في مقابر جماعية اكتشفت بعد سقوط نظام صدام البائد في 9 نيسان 2003.
كان نظام صدام الديكتاتوري يعد العدة لاجتياح كوردستان حيث كانت معداته وآلياته العسكرية تُنقل، وعديد جنوده وجحوشه تُجهز للبدء بأبشع جرائم عرفها تأريخ عراقنا الحديث الا وهي جرائم الانفال، وبسبب هذه الجرائم وبشاعتها اضطر سكان المناطق الكوردية المحاذية للحدود العراقية التركية ومعهم فصائل البيشمركة للأحزاب الكوردية وانصار حزبنا الى مغادرة تلك المناطق، والتي كانت الى زمن قريب قبل بدء عمليات الانفال تسمى (بالمناطق المحررة) . في هذه المناطق كانت لفصائل البيشمركة من الأحزاب الكوردية وحزبنا مقرات لاستراحة مقاتليهم ولمعالجة المرضى منهم وإدارة شؤون العمل الحزبي والعسكري والاعلامي، ومحطات للربط بين المفارز المنتشرة في مختلف المناطق.
كان ذلك ليلة 26/8/1988 حين تقرر مغادرة مقرنا (مقر أنصار الحزب الشيوعي العراقي – قاطع بهدينان في گلي هسبه)، وانسحابنا هذا تزامن كما ذكرت مع عمليات الانفال. تخلل الانسحاب العديد من الاعمال البطولية والمواقف والقرارات التي لابد ان تدون كشهادات توثيقية لمرحلة مهمة من نضالنا ووفاءً لشهدائنا الذين جادوا بحياتهم من اجل إعلاء راية الحزب في هذه البقعة العزيزة من عراقنا الحبيب.
بعد مرور ثلاثين عاما على انسحابنا من مقراتنا في كوردستان، لابد من القول بان مايذكر في هذه السطور هي معايشتي الشخصية للأحداث التي كنت قد كتبت جزءا منها في ايّام بعد الحدث والجزء الاخر معتمدا على الذاكرة والتي على الرغم من ادعائي بقوتها ولكن لابد ان تحمل في طياتها شيئا من الضعف والنسيان بعد هذا الزمن الطويل.
اكتب هذا وكلي أمل بتحفيز ذاكرة الكثير من الرفاق الذين عايشوا الأحداث وكانوا فاعلين فيها على نحو مباشر وليس ممن رويَ له الحدث وكتب عنها. والهدف من ذلك كما ذكرت هو توثيق هذه المرحلة من كفاح الانصار الشيوعيين العراقيين الأبطال، وهم في عمق المِحنة مع الشعب الكوردي الذي عانى وكابد ظلم الدكتاتورية من قصف بالاسلحة الكيمياوية وحرق وتهجير الآف القرى وقتل الأطفال والنساء والشيوخ دون رحمة. التوثيق الذي يفضي الى قول الحقيقة كما هي بدون تزويق ومحاباة.
ايّام قبل الانسحاب
في أواخر نيسان 1988 عقدت اللجنة المركزية اجتماعها الدوري في كلي خواكورك بالقرب من المثلث الحدودي العراقي- الإيراني- التركي. تميز الاجتماع هذا عن غيره من اجتماعات اللجنة المركزية للحزب بان تغيب عنه عناصر مهمة في دفاعها عن سياسة الحزب المرسومة حينذاك (من اجل ايقاف الحرب وإسقاط الديكتاتورية الفاشية وتحقيق البديل الديمقراطي)، وهؤلاء الرفاق ومعهم العديد من أعضاء وكوادر الحزب عملوا بكل طاقاتهم من اجل إنجاح هذا الشعار، حيث كانوا من الأوائل في بناء قواعد الانصار وعملوا على تطويرها ورفدها بخيرة أعضاء الحزب وكوادره واصدقائه. ان غياب أعضاء اللجنة المركزية هؤلاء عن هذا الاجتماع وحسب ماعبر عنه الرفيق ابو جميل (توما توماس، عضو ل. م. والمسؤول العسكري لقاطع بهدينان): ( انهم كانوا في اجازة مفتوحة) ولَم يدعوا لهذا الاجتماع، ترك الباب مفتوحا للأعضاء الآخرين والذين كانوا معارضين لنهج الكفاح المسلح ويعدون الأيام لإنهائه، والعمل على إيجاد بديل يريحهم من التنقل والتجوال في ارجاء جبال كوردستان. بديل يعيدهم الى المكاتب والعمل البيروقراطي المريح. ان قرارات هذا الاجتماع جاءت مخيبة لآمال الكثير من الانصار الذين قدموا الغالي والنفيس من اجل إنجاح هذه السياسة، ومن اجل حماية الحزب واستمرار ديمومته. وكانت اللجنة المركزية في هذا الاجتماع قد اقرت آليات نقل مهمات قوات الانصار من المكتب العسكري المركزي لقوات الأنصار الذي كان بإشراف المكتب السياسي للحزب والذي يقوده عضو في المكتب السياسي الى قيادة اقليم كوردستان الذي شكل بقيادة جديدة يتكون غالبيتهم من الرفاق الجدد في اللجنة المركزية (المؤتمر الرابع خوّل سكرتير الحزب باختيار 10 رفاق جدد الى عضوية ل. م.)، والذين كانوا لايتمتعون بامكانيات وقدرات تؤهلهم لإدارة المفاصل الاساسية في العمل الأنصاري والذين لم تكن في اجندة أعمالهم ومهماتهم الجديدة سوى مهمة إنهاء الحركة الأنصارية. سُميت هذه المكاتب حسب المحليات، نينوى، دهوك، أربيل وكركوك والسليمانية. ان التحول في العمل الأنصاري لعب دورا كبيرا في تغيير المزاج العام للأنصار حتى المتحمسين والمندفعين منهم.
ان الآليات الجديدة في العمل الأنصاري إنما كانت في جوهرها غير المعلن تسعى الى إنهاء حركة الانصار تدريجيا والتي تمت بطريقة مكشوفة لكل الرفاق وان السلطة الديكتاتورية باجراءآتها اللاحقة عجلت في هذا الامر. اما مايخص محلية نينوى ودهوك فقد أنيطت المسؤولية للرفيقين (أ.رنا أ. عادل السياسي) بعد ان اعُطِيّ الرفيق ابو جميل اجازة مفتوحة. لم يكن للرفقيين معا إمكانية ملئ حيّز ولو بسيط من الذي كان يقوم به الرفيق ابو جميل بمفرده، وقد اثبتت الأحداث لاحقا صحة ما توقعه الانصار وما آلِ اليه انسحاب قاطع بهدينان من تشتت و خسائر.
بعد اعلان وقف الحرب بين القوات العراقية والايرانية في 20 آب 1988 كان لدى معظم الانصار احساساً: ان نظام البعث سوف ينقل حربه الى كوردستان، وان الأيام القادمة تخبئ لنا مصيرًا مجهولا يصعب التكهن به. الكثير منا اصابهم شعور بإحباط داخلي لايمكن البوح به حتى مع اقرب المقربين. خصوصا وان التغيرات في آليات العمل والتنظيم بدأ تنفيذها على ارض الواقع، وان المكلفين بالمهام الجديدة من القياديين أرادوا إثبات إمكانياتهم التنظيمية والعسكرية، حيث بدأت حملة لاستطلاع مواقع للسلطة بهدف القيام بعمليات عسكرية لاعتقادهم بان وقف الحرب قد يؤدي الى ارباك النظام وان القيام بعمليات نوعية جديدة ربما يسهم بإضعافه اكثر لان النظام خرج للتو من حرب .
ان عمليات الاستطلاع هذه كانت تتطلب استعدادا نفسيا وحماساً بالاضافة الى الجهد البدني، وعليه كان من الصعب على الرفاق الانصار المساهمة الفاعلة بمثل هكذا مفارز، للاعتقاد بان لاجدوى من القيام بمثل هكذا عمليات. مع معرفة قيادة المقر بكل ذلك فقد أرسلت مفرزة للقيام بهذه المهمة.
أُشيع ان هناك محاولات للتفاوض مع النظام، وان هناك اراء في قيادة الحزب تدعم هذا التفاوض (رسالة من مكرم الطالباني توضح استعداد النظام للمفاوضات)، وان عدد منهم يثقف بهذا الاتجاه في محاولة لإيجاد ارضية لتقبل هذا الرأي بين القاعدة الحزبية. كانت كل النقاشات والحوارات بين الرفاق في تجمعاتهم وتواجدهم تدور حول آفاق عمل الحزب وسياسته في المرحلة القادمة ومحاولة استقراء ما تخبئه الأيام القادمة لنا في هذا الگلي (الوادي) بعد ان تضع الحرب أوزارها بين العراق وإيران. ان حصيلة المناقشات والحوارات كانت تُجمع ان القيادات الحزبية في موقعنا والمواقع الاخرى ليس لديها اَي تصور بما سيحصل في قريب الأيام.
اذكر انه في تلك الأيام عقد الرفيق المسؤول الحزبي الاول في محلية دهوك اجتماعا لرفاق المقر وكان محور حديثه يدور حول مهمات الحزب القادمة ودور البروليتاريا العراقية في السياسة الراهنة. في سياق المناقشات طرحت العديد من الأسئلة حول سياسة الحزب والموقف من النظام بعد وقف الحرب ومدى استعداداتنا لو ان النظام ادار عجلة الحرب نحو كوردستان. عندها كيف سيكون الموقف وماهي خطة الطوارئ. ادخلت هذه الأسئلة والمواضيع المطروحة الرفيق المسؤول في حيرة من أمره، وبدا عليه الارتباك ووجد صعوبة بالغة في لملمة أفكاره للإجابة وإدارة النقاش بشكل يوفر الحد الأدنى من القناعة لما طرح من أفكار. أعطى اللقاء انطباعا عاما عن ماكانت تعانيه القيادات الحزبية للمحليات من ارتباك وتخبط في تقييمها للموقف وتخلفها عن مواكبة الأحداث وتطورها. وكان له (اللقاء) مردودا سلبيا على معنويات الرفاق وعَمّق من حيٌرتهم وجعل لنقاشاتهم في الحلقات الصغيرة التي غالبا ماكانت تلتئم بعد وجبات العشاء قرب عين الماء (وجْنَة العين، كما كان يسميها الفقيد ابو فهد) منحى آخر للتكهنات والحدس بان القادم أسوأ. لذا ارتأى العديد من الرفاق بضرورة العمل السريع من اجل اخلاء المقرات من العوائل والأطفال والمرضى والقيام باجراءات وقائية تحسبًا لما تقوم به السلطة من اعمال عدوانية.
لم يمضي وقت طويل حتى تواردت معلومات من الربيئة المرابطة على قمة جبل متين تؤكد وجود تغييرات في تحركات الجيش العراقي في الربايا وان هذه الحركة غير طبيعية، وعندما تم اخبار المسؤولين في الموقع عن مايجري من تحركات للسلطة كانت تحليلاتهم للامور مغايرة لتصورات غالبية الرفاق حيث كانوا يؤكدون ان ماتقوم به السلطة من تحركات ماهو الا مجرد تغيير لأماكن الجيش وأنهم لايتصورون بان النظام يمكن ان يزج بالجيش في الحرب مرة اخرى، وان هذا الذي تقوم به السلطة هو مجرد اعادة تنظيم القطعات العسكرية.
في الْيَوْمَ التالي عادت مفرزة الاستطلاع الى المقر لتؤكد معلومات ربيئة جبل متين: بان النظام ربما يفكر بالهجوم على المنطقة وربما تكون هناك نوايا باحتلال مقرات الانصار ومقرات الأحزاب الكوردية هناك.
بعد سلسلة من المداولات وتبادل الرأي جاء القرار باخلاء العوائل الموجودة في المقر (يوم 23/8/1988) الى المنطقة المقابلة لگلي هسبة في الطرف الاخر من الطريق الذي يربط ناحية كاني ماسي - بيكوفا وهذه المنطقة محاذية للحدود العراقية - التركية، حيث يتم هناك انشاء مقر وقتي تتجمع فيه العوائل والرفاق المرضى وعدد اخر من الرفاق لحين تجاوز هذا الوضع الأمني الطارئ. لذا بدأت حركة دؤوبة من اجل الانتقال الى المقر البديل حيث جرى تكليف عدد من الرفاق للقيام بهذه المهمة. الأحداث تتسارع مع توارد الأنباء والإشاعات التي كانت تبثها السلطة عبر عملائِها وجواسيسها لنشر الرعب والخوف في صفوف السكان ودفعهم الى هجر القرى والتوجه نحو الحدود التركية. سهلت البلبلة الحاصلة بفعل الإشاعات من سرعة تقدم الجيش واحتلاله للربايا المهجورة على طول الطريق الواصل بين ناحية باطوفة وزاخو ودخوله الى قرى منطقة السندي والگٌليّ.