بعد معركة (قلاسنج)، ساد جو من الهدوء النسبي  رغم أننا خسرنا نصيرين، لكن المعركة كانت موفقة، ولم يتمكن خصومنا أو أعدائنا ، سمهم ماشئت، من أقتحام قرية قلاسنج التي تحصنا بها. لكن وكما أعتدنا بعد كل معركة، كان الجميع مشغولا بحشو عتاد جديد في مخازن الكلاشنكوف أثر المعركة، وإلتف العديد من الأنصار حول عيون الماء،  يملؤون (مطاراتهم) بالمياه في ذلك اليوم الساخن الذي يعتبره ألجغرافيون أطول نهارات العام واعلاها حرارة في بلادنا.

كنت ومجموعة من سرية خوشناوتي، قد عرفت بقدوم قوة كبيرة من قاطع أربيل لأنصارنا،  والتي خاضت معركة مع قوات (أوك) في قرية (زيباروك)، وتم لقاؤنا في قرية (قلاسنج). الوضع لم يكن مناسبا لحضور هذه القوة الكبيرة، لان الإتحاد الوطني ألكردستاني، والذي كان في حالة هدنة ومفاوضات مع نظام صدام، لم يكن مستعدا لقبول وجود خصوم من قوى(جود)، ولهذا حشد (أوك) قواته، لمنع قوات أنصار ألحزب ألشيوعي من التوجه لمناطق وأرياف أربيل وكركوك. كانت أذن مناطق خوشناوتي، ممرا أجباريا لأي قوة بيشمركة مسلحة قادمة من شمال أربيل، فكان الصدام حتميا بين قوات الأنصار ألشيوعيين  المتوجهة لمقاتلة النظام، وبين قوات ألأتحاد الوطني الكردستاني التي تعهدت للنظام بابعاد قوى (جود) أو الجبهة الوطنية الديمقراطية..

توجهت القوة، منسحبة من قرية (قلاسنج)، بهدف عبور المنطقة في وقت الظلام.

غدا يوم آخر... غدا سنفقد أربعة من رفاقنا، ومنهم صديق شبابي القديم (ضرغام موسى). عرفت (ضرغام)، عندما كنت طالبا في إعدادية النضال، وعبر أتحاد الطلبة العام، حيث كان ضرغام في اتحاد الطلبة في الإعدادية المركزية، وقضينا شوطا مهما منذ البدايات، في لقاءات متواصلة ويومية في المركز الثقافي السوفيتي قبل أغلاقه وعلى شواطئ أبونؤاس، حيث نخوض مع مجاميع من طلاب الثانويات (المركزية)، و(الشرقية)، و(النضال)، حوارات نقاش، تواصلت حتى بلوغنا الدراسة الجامعية. كنا مجموعة كبيرة، لا تمل من الحوار حتى نهاية المساء على شواطئ نهر دجلة العظيم الذي كان يصغي بصمت  لاحلامنا، بنظام أجتماعي عادل. كان ضرغام عند هذه ألحوارات، أكثرنا يسارية وتطرفا أيضا، لكن ضغط مجموعة الأصدقاء، كان يقوده للبقاء مع المجموع.

عندما توجهت لقواعد أنصار ألحزب ألشيوعي بعد عام 1981، إلتقيت ضرغام من جديد بعد سنوات عديدة تركت أثرها عليه، فقد كان مهموما بوضع حبيبته وخطيبته التي بقيت تواصل العمل الحزبي السري في صفوف منظمات ألحزب ألشيوعي في بغداد.

واصل ضرغام العمل في الأنصار في سرية شوان حتى حزيران عام 1984، وإنظمّ للقوة التي توجهت من منطقة بارزان الى مناطق بركة وباليسان، ثم ريف أربيل وريف كركوك، لكن المواجهة وقعت قبل تجاوز مناطق محيط شقلارة، فوقعت مواجهات في قرية (زيباروك)، وفي قرية (قلاسنج )، لكن المعركة الأقسى كانت في الكمين الذي أعده الإتحاد الوطني الكردستاني (أوك)، بعد معركة (قلاسنج)، حيث توجهت قوتنا الى منطقة (حجران)، في وقت وضع (أوك) الذي كان في مفاوضات مع حكومة صدام،  كمائنا ضربت قوتنا في منتصف الليل أثناء عبورها (حجران).

كانت قواتنا مرهقة كليا عندما وقعت في كمائن (أوك) في وادي (حجران)، فالقوة محدودة العتاد بعد معركة أمتدت يوما كاملا في (قلاسنج)، كما أن ساعات النوم كانت محدودة.

أثر ألكمين، تشتت قوتنا، وتوزعت ألى أقسام، فاستطاع قسم من القوة العبور وتجاوز الكمين، في حين بقي الجزء الأكبر من القوة محاصرا في منطقة صخرية، ولكن بدون مصادر مياه، واصبحت المعركة هي معركة الحصول على الماء..

استطاعت أغلب المجموعات من القوة التي تعرضت للكمين ومنها مجموعتنا، أن تقاوم العطش في درجات حرارة قاسية، واضطر العديد ألى شرب حتى بولهم للحفاظ على حياتهم، حتى حلول المساء حيث تسللت المجموعات وعادت ألى قواعدها، باستثناء مجموعة كانت تضم  الأنصار  ضرغام موسى (أزاد)، ووحيد أسعد خدر (جبار)، وإقبال عواد(مهدي)، وسعد مزهر العامري(أبو ليلى)، وقعت في أسر (أوك) أثر فقدانهم التواصل مع  القوة.

تعرض المقالة التي نشرها الصحفي ألشيوعي شمال عادل سليم، والتي ترجم فيها ماكتبه أحد أفراد (أوك)، الذين شهدوا اللحظات الأخيرة من أعدام الرفاق الأربعة على يد قادة (أوك)  شوكت الحاج مشير وملازم عمر، اللذين منعا عن رفاقنا الماء، ثم أمروا باعدامهم، بعد ربطهم ألى أشجار قريبة من نبع ماء في قرية (ته وسكة). ويضيف الشاهد وهو من (أوك) مايلي:

((للتاريخ اقول : قبل ان ينفذوا الاعدام بهم، تم استجوابهم لمعرفة عناوينهم واسمائهم، وعلى الرغم من ان الاسرى كانوا شباب في مقْتبل العمر، الا انهم كانوا شجعانا ومتماسكين، وكانوا جريئين في اجوبتهم، وواجهوا الموت بشجاعة ونكران ذات. وبعد مرور وقت قصير، وجهوا فوهات بنادقهم نحو صدور الاسرى العارية، و افرغوا الرصاصات في رؤوسهم، واغرقوهم بالنار والدم في وادي قرية ته وسكة)).

هذه شهادة شخص من المسلحين اللذين قاتلونا، والذي دعاه ضميره بعد عشرات السنين لوصف أللحظات الآخيرة لهم.

بعد عدة من الأيام، جاءت والدة النصير الشاب وحيد أسعد خضر (جبار)، لتدفن ولدها، وولد عضو اللجنة المركزية آنذاك (أسعد خدر) الوحيد ورفاقه الثلاثة. المجد للشهداء.

النصير الشيوعي العدد 24 السنة الثالثة تموز 2024