في ريف كردستان يسمى كل من له علاقة بالصحة دكتور، من حارس المستشفى حتى طبيب الاختصاص، ودكتور شاكر (احمد عبد محمد آل ضعيف الحمداني)، كان يعمل موظف صحي في إحدى مستشفيات بغداد، وبالكاد كان يعرف زرق الابر، إلا انه اكتسب خبرة طبية عملية في كردستان. وجهه اقرب للاستطالة، لونه حنطي لامع ويعتني ببشرته، كان يرغب أن يطيل لحيته مثل بعض الأنصار، إلا أن نعومة شعر وجهه تمنعه من ذلك. كان وسيما وأنيقا، ويحب دائما أن يظهر خصلات من شعره الأسود السبل من تحت (الجمداني). ورغم تجاوزه الثلاثين، الا انه يبدو اصغر بكثير. نودي عليه بعجلة عندما كان يغسل وجهه بعد نهوضه صباحا، لمعالجة حالة طارئة، حيث احترقت كفي (سرجل) خفر الخدمة الرفاقية اثناء تحضيره الفطور .

كنا في "كرجال" مقر قاطع سليمانية وكركوك للأنصار، والمقر يقع في قطع صخري حاد وعميق خلف شلال مصيف احمد آوه، وهي آخر منطقة عراقية على امتداد الطريق النازل إلى قضاء مريوان الإيراني، والمقر عصي على قطعات الجيش ومدفعيته، ولا يسقط في الوادي إلا قذائف المدفعية التي تقصّر في مداها، عندما يتبادل العراقيون والإيرانيون القصف المدفعي وقت اشتداد الهجمات بين الطرفين. كان الفطور ذلك اليوم دسما، بعد أن اقنعوا الإداري علي عرب ليصرف لهم مواد الخبز المقلي بالدهن ويرش عليه بعض السكر. وبعد أن أكمل "سرجل" إنجاز عدة أرغفة من الخبز، تشتت ذهنه، وبدل من أن يمسك العجينة من طرفيها ويتركها تنساب في الزيت، انزل كفيه التي تحمل العجينة المفتوحة في الزيت المغلي، وانشده الجميع لصرخته التي طغت على كل شيء. أخذه الدكتور شاكر إلى غرفة المستشفى لعلاجه، واستمر الرفيق أبو عناد الذي كان يساعده في إنجاز الباقي من الأرغفة .

أبو عناد أصبح آمر مفرزة متحركة في الفترة الأخيرة، وهي مفرزة جاهزة لتقديم الإسناد عند طلب المساعدة من قبل السرايا والأفواج من مقر القاطع. كان ابو عناد في طبعه لا يعرف السكون، كان يشعر إن سبب وجوده في الحياة هو مواصلة العمل، وبكل أشكاله، وفي فترات راحته كان يلتهم الكتب الموجودة في مكتبة القاطع، ويشارك بنشاطات ثقافية منها العمل في مسرحيتين، وبسبب تدفق الطاقة عنده، اتهمه البعض ان وراء هذا النشاط رغبة في الحصول على صفة حزبية أعلى .

لم نأخذ المبادئ الشيوعية فقط، والتي تعني الانتصار للفقراء، بل أخذنا بتقاليد وأساليب بناء الأحزاب الشيوعية، وكانت القيادة لمنظري أحزاب دول المنظومة الاشتراكية التي تقود السلطة في بلدانها، وبالذات الاتحاد السوفيتي، وما رافق هذه السلطة من تطور في أساليب العمل البيروقراطي الذي أدى إلى انهيارها، وكان احد تجليات هذه التقاليد تقديس الصفة الحزبية. وبدل أن يكون منح الصفة الحزبية نتيجة لحاجة هيكلية الحزب وإمكانيات الرفيق، أصبحت تمنح كدرجة وظيفية، ورفعها عن الرفيق عقوبة توازي في أكثر الأحيان عقوبة الطرد، وخلق هذا مجموعة من العاطلين المتموضعين في هذه الصفات الوظيفية. ورغم اعتماد الحزب ومنذ مؤتمره الخامس على تنشيط الديمقراطية، واعتماد الانتخابات الحزبية كأساس في تحديد الصفة الحزبية، إلا ان آثار أساليب العمل السابقة وما تركته من ترسبات، أعاقت الكثير من التطوير الذي كان يعوّل عليه للنهوض بعمل الحزب، ولا تزال القدسية للصفة الحزبية هي الأهم لدى البعض، ويستمدون منها توازن وجودهم. إلا ان أبو عناد وعند اشتداد المواجهات مع قوات النظام، واستبساله في كل المعارك التي شارك فيها بدد هذه التقولات التي أرادت الانتقاص من نقائه، وبقى هذا النقاء ليس في ذاكرة رفاقه فقط، بل وفي ذاكرة الرفاق في البارتي والاشتراكي الذين شاركوه هذه المعارك .

ابو عناد يمتلك روح النكتة، وعلاقته جيدة بالجميع، اقنع صديقه إداري الموقع علي عرب، بأنه صاحب موهبة شعرية. وعلي عرب من ديالى خريج ثانوية الزراعة، ويعمل في احدى الدوائر الزراعية في المحافظة، القي القبض عليه عام 1980، وبعد تعذيب بشع اجبر على توقيع التعهد سيء الصيت بعدم العمل مع الحزب الشيوعي. كان حريصا في إدارته للمواد التموينية لدرجة البخل، كان يعطي الأرزاق المخصصة لذلك اليوم للرفيق الخفر مع تجهيزات الفطور، لكي لا يطلب الرفيق أكثر عند قدوم مفرزة أو ضيوف آخرين، ويأكل الضيوف من الحصة المخصصة لرفاق المقر، ودائما عنده زيادة في الأرزاق. اقترح عليه أبو عناد أن يسلم حبات الفاصوليا المخصصة لكل رفيق بالعدد، بعد أن يحسب عددها في علبة المعجون المخصصة لكل خمسة رفاق، منعا لحدوث زيادة لا سامح الله بين علبة وأخرى، وأضاف دكتور شاكر: ونمشيه على الحمص والعدس إذا ضبط الحساب. لا احد يتضايق من (حرص) علي، بعد أن شاهدوه كيف اخذ ينشج كالطفل عندما أعيدت له عضوية الحزب. وعلى اثر الجريمة التي ارتكبها الاتحاد الوطني بحق الشيوعيين في بشتاشان، وظهور جلال الطالباني مع صدام سوية، انتفضت شاعرية علي، فكتب قصيدة فيها كل بحور الدنيا ومحيطاتها إلا بحور الشعر!، ولم اعد أتذكر إلا مطلعها الذي يقول فيه: "والتقى الكبشان .... صدام وجلال"، ولحنها أبو عناد بحرفية لا تقل عن حرفية نظم علي، وأقنعه بإلقائها في كل الاحتفالات الوطنية .

عاد دكتور شاكر الذي يخلف سرجل في الخفارة لاستلام المطبخ من أبو عناد. كان شاكر حتى في خفارته منظما، نظيفا، يضع الأشياء في مكانها، وكان يحب الصور الفوتوغرافية أيضا. استعار من احد الأصدقاء في قرية احمد آوه القريبة كاميرا صوّر بها بعض أللقطات، ونتيجة اعتزازه بحياة البيشمركَة أراد أن يوثقها بأخذ عدة صور مع البغل، وطلب من الرفيق مسؤول الإعلام في القاطع أن يستخدم خبرته في اختيار أللقطات وزوايا التصوير، وبعد اخذ عدة صور فوق البغل وبجانبه وكيف يشد الحمل عليه أو يعلفه، أرسل الفيلم إلى إيران لغسله وطبعه، وعادت الصور بعد عدة أسابيع ولم يكن دكتور شاكر في الصور، بل كان البغل وحده .

طلب شاكر من سرجل الذي لف كفيه أن يذهب إلى قاعة الفصيل ليرتاح، ولكن سرجل فضل البقاء في المطبخ، ورغم آلام كفيه اعتذر لشاكر الذي كلف بالخفارة قبل يومه. سرجل حساس ورقيق ولا يعرف أن يضمر أو يسيء، ترك دراسته الجامعية في بغداد اثر الهجمة على الشيوعيين عام 1979، وعاد إلى مدينته خانقين، وبعد عودته بثلاثة أيام اضطر للاختباء في غرفة صغيرة لعدة اشهر، وهذه الفترة الطويلة ولدت عنده حالة من الانشغال مع ألذات تمنع عليه التواصل مع الآخرين في بعض الأحيان، أو كما يسمى في الشعبي (يسرح). قبل فترة اكتشفت شبكة تجسسية للحكومة في (كرجال)، كانوا أربعة أشخاص، توزعوا بالنصف بيننا وبين البارتي المقابل لمقرنا. وبعد إلقاء القبض عليهم حاولوا إشراك اكبر عدد من الرفاق معهم، ومن بين الذين اعترفوا عليهم رفيق بغدادي معروف بذكائه وخفة دمه وحبه للنكتة يدعى ستار. وللاحتياط أودع ستار معهم في غرفة السجن، واختير سرجل ليكون معهم كسجين أيضا، عسى أن يسمع منهم شيئا، أو يستدرجهم للبوح بأي شيء يستفيد منه التحقيق .

أنطرح سرجل بين ستار والسجينين الآخرين، والتفت إلى صديقه ستار، واخذ (يستدرجه)، وبعد دقائق، وضع ستار كفه فوق كف سرجل، وقبل أن يستوعب سرجل سر هذه الحركة المريبة، دفع بيد سرجل بين فخذيه، انتفض سرجل وصرخ كأن أفعى لدغته، اتكأ على الباب وقابل ستار، وغرق الاثنان في الضحك. طلب من الحرس أن يأتيه بأحد رفاق القاطع، وبعد دقائق قال لرفيق القاطع: رفيق ما اكَدر بعد، البرغوث أكلني. وبعد يومين، ذهب سرجل حرس مع ستار لجلب الحطب من غابة صغيرة تقع على يسار المقر بنصف كيلومتر، وعاد سرجل يحمل الحطب، وستار خلفه يحمل البندقية .

ونجح مكتب القاطع عندما بعث الرفيق احمد عرب للالتحاق ببهاء الدين نوري، الذي خرج من الحزب وأراد تشكيل تنظيم جديد، أو كما يسميه البعض (انشقاق)، وحصل احمد على عضوية المكتب السياسي عند بهاء، ونشط في سهل شهرزور، وبين قريتي آلان وحاصل المتجاورتين، عثرت عليه مفرزة من سريته التي كان مستشارا سياسيا لها، وهي من وحدات الفوج التاسع الذي يشرف على عمليات شهرزور ومحيط مدينة السليمانية. احمد عرب كان شديد الالتزام بتنفيذ التوجيهات الحزبية أو الأنصارية، وكانت شدة لا تستقيم مع صعوبات حياة البيشمركَة، فولّد هذا بعض النفور منه من البيشمركَة في السرية. ومن سوء حظه أن تعثر عليه هذه المفرزة بالذات، التي فرحت بذهابه مع بهاء. طبعا لا احد يعرف بإرساله غير مكتب القاطع، اعتقلوه وهو لا يستطيع أن يخبرهم بأي شيء، وحتى لو اخبرهم، فمن الذي سيقبل أن يصدق؟ والى أن وصل إلى مقر القاطع، ولسان حاله يقول: ألف برغوث من براغيث سرجل، ولا عذاب هذين اليومين .سمعنا صوت انفجارين خفيفين، هرعنا إلى المطبخ الذي تركناه للتو خلفنا، سحابة كثيفة من البخار، تطايرت بعض الأتربة، أعشاب وأوراق يابسة تتزاحم وسط البخار والتراب، كان فوق الموقد ثلاثة صفائح حليب (نيدو) مفتوحة تخرج نافورات البخار، وتطايرت حبات الفاصوليا من الصفائح إلى السقف. الرفيقة هدى شقيقة الشهيدة عائدة ياسين - وهي طباخة ماهرة - اقترحت على الدكتور شاكر أن يطبخ الفاصوليا (بجدر ضغط) لكي تكون الفاصوليا أطيب، ولما لم يكن في القاطع جدر ضغط، استبدل بصفائح النيدو، وفاتها أن تخبره بان عليه أن يحدث عدة ثقوب في غطاء العلبة، فانفجرت العلب، وذهبت الفاصوليا هباء. كان دكتور شاكر مترب وكأنه خرج لتوه من معركة، والإداري علي عرب أشبه بمن فقد عزيزا عليه، ليس على تأخر غذاء الرفاق طبعا، بل لكونه سيصرف وجبة غذاء جديدة. عطف عليه أبو عناد وقال: ولا يهمك أبو حسين، آني والشباب نصعد نلطع حصتنه بالسكَف، والباقي وزعه للرفاق، بس كون أتدبر درج. ضحك سرجل من أعماقه وقال: هم راح يكَول الرفيق علي بسبب سرجل. واعتذر للدكتور شاكر على خراب شياكته .استشهد شاكر في باني خيلاني 25/ 12/ 1985 اثر معركة مع (اوك)، واستشهد ابو عناد وعلي عرب في المعارك الشرسة التي خاضتها قوات الأنصار مع قوات الجيش أثناء عمليات الأنفال المجرمة.