بعد مغادرتنا محافظة أرومية تحركت بنا السيارات في طريق ملتـوي ضيق بين الجبال الجرداء والطبيعة الصحراوية الجافة متوجهين نحـو مدينة ( خوي ) التي تقع في شمال ايران ومجاورة للحدود التركية حتى بـدأ الظـلام يخيم على المنطقـة تدريجيا" وأنعدمت الرؤيا وغلب علينا النعاس من شـدة الجوع والتعب والأرهاق ونحن بين النوم واليقضة، الجميع يغـط بنوم عميق وتتعالى أصوات الشخير المتعاكسة مع بعضها، أما نحن فكنا في عالم آخر نناقش معا" بهدوء أحتمالات ما الذي قد يحدث لنا وكيفية التصرف والأجابة الموحدة على الأسئلة غير المتوقعة التي قد تطرح علينا خلال التحقيق لكي تكون اجوبتنا متطابقة.

كنا نتوقع ان مدينة ( خوي ) هي محطتنا القادمة لكن الباصات التي أقلتنا غيرت مسارها وأتخذت طريقا" صحراوياً آخر يقع على مشارف المدينة وتحيط به الجبال العالية، وبعـــد مرور اكثر من ثلاث ساعات على مغادرتنا مبنى محافظة ( ارومية ) توقفت الباصات امام ما يشبه معسكر للجيش تضئ واجهته بعض الأضوية الباهتة وفي واجهته لوحـة كبيرة كتب عليها بالفارسية ( أوردكاه خوي ) أي ( معسكر خوي )، وهو سـجن سابق في عهد الشاه وحـولته الحكومـة الأيرانية الى معسكر لللاجئين.

تم الطلب من الجميع النزول من الباصات التي اقلتنا تحت أنظار الحرس الثـــوري والمخابرات الأيرانية ووقفنا في طوابير ننتظر التعليمات من ادارة المعسكر، وهذا المنظـر ذكرني بما كنا نشاهـده في الأفــلام في الحـرب العالمية الثانية وطوابير اللاجئين اليهــود وهم يقفون أمام المعسكرات النازية.

نسيم الهــواء الصحراوي الليلي يلطف الحرارة بعض الشئ، الوقت الآن منتصف الليــل تقريبا"، عددنا تجاوز المائة والخمسين لاجئا" من النساء والرجال والأطفال، تحــرك الطابور بناء على التعليمات لبضعة دقائق داخل المعسكر حتى وقفنا امام باب حديدية واسعة طليت بلون بني غامق تـؤدي الى ساحة كبيرة، فتحت الأبواب وطلب من الجميع الدخــول وأقفلت الأبـواب خلفنا وكأننـا في سجن نازي.

انها سـاحة مستطيلة الشكل ذات جدران عالية وتنتهي بالأسلاك الشائكة ولا تتجاوز مساحتها أربعون متــرا" طولا" وعشرين مترا" عرضا"، الأرض ترابية، الساحة خالية تماما" ولا تتوفر فيها أي افرشة للنوم أو ماء أو أكل ولا مرافق صحية، أصيب الجميع بالأعياء، النساء والرجال والأطفال أفترشوا الأرض للنوم في العراء وسط برودة الليل، العوائل أقتربت من بعضها وكــل عائلة ترثي نفسها، وأتخذ العزاب جهة أخرى والعديد منهم أتخذ القرفصاء واسند ظهره للجدران لضيق المكان للحصول على دفئ كاذب، حصلت ام سوزان على بعض الصحف الأيرانية القديمة وتم فرشها على الأرض لكي نحاول النوم فوقها.

الفجر في المناطق الصحراوية عادة ما يكون باردا" نسبيا" ولا يمكن النوم بدون أغطية، تبرعت أحدى الســيدات القريبة منا بأحــد الشراشف وقامت بتغطيتنا مشكورة حتى الصباح بعد ان لاحظت معاناتنـا، الجميع يلعن حظه العاثر والساعة التي دخل فيهــا ايران والحكومة الأيرانية على تشجيعها العراقين على اللجوء والتي لم تقدم لهم أبسط الخدمات الأنسانية بالرغم من مساعدات الأمم المتحدة الممنوحة لللاجئين، آخرون ونحن منهم نحمل الرفاق ما يجري لنا وحظنا العاثر الذي أوصلنا الى هذا المكان، الأطفال يتباكون من الجوع أمام ادارة المعسكر دون ان تحرك ساكنا"، أنه سجن بكل معنى الكلمة !!!! يذكرنا بسجون الفاشية.

في الساعة التاسعة من صباح اليوم التالي فتح باب الساحة الحديدي وأطل علينا بعض أفراد حرس الثــورة المدججين بالسلاح حاملين معهم أكياس تحتوي على الخبز وترامس الماء والشاي، ووزع لكل لاجئ رغيف من الخبز وبقي الماء الشاي في مكانه لعدم توفر الأقداح للشرب حتى بدأت بعض العوائل بأخراج ما لديـها من أقداح وعلب بلاستيكية وتعاون الجميع على استعمالها بالتناوب وبسرعة ليترك المجال للآخرين ثم خرجنا من الساحة ( السجن ) لألقاء نظرة الى الخارج لنتعرف على طبيعة هذا المعسكر الذي سنقظي فيه فترة من حياتنا لا نعرف مدتها.

معسكر ( خـوي )عبـارة عن أرض منبسطة محروسـة من قبل حـرس الثـورة الأيرانيــة المدججين بالأسلحـــة الرشاشة وتحيط بهــا الأسلاك الشائكـة من كل جانب، وعلى مسافـة قليلــة من هـذه الأسلاك هنـاك سلسلة جبال ( أفرين ) الرمادية اللـون الجـرداء الشـاهقـة وذات القطـوع الحـادة التي تحيط بالمعسكر من كافـة الجهات، تتداخل هــذه الجبـال مع سلسلة جبـال أخـرى ضمن الحـدود التركيـة ولا يمكن بأي حـال ان يفكـر الأنسان بتسلقهـا اذ ستكون نتيجـة هـذه المغامرة الموت الحتمي بسبب الأرتفاع الشاهـق والحيوانات المفترسة.

بوابة المعسكر محروسة من قبل الأمن الأيراني وحرس الثورة وهم يحملون أسلحتهم، مجموعة من الغرف الصغيرة المتلاصقة حولتها أدارة المعسكر لأماكن خزن وتوزيع الطعام، غرف صغيرة قـذرة فارغة تحـمل جدرانهـا تواقيع ورسوم السجناء الذين سكنوها سابقا" مع بقع حمراء متناثرة على الجدران قد تكون دماء لبعض السجناء، بجانب كل غرفتين مرافق صحية قذرة جدا" ايضا" وتفتقر الى المياه ولا يمكن استعمالها، طريق واحد ترابي لا يتجاوز طوله مائتي متر يمر امام الغرف تسير فيه سيارات ادارة المعسكر والدوريات العسكريـة وتنقلات المسؤولين، لا أثـر للحمامـات أو الميـاه الصالحة للشرب او الخدمات الصحية داخل المعسكر، حنفيات ماء غير صالح للشرب متباعدة في الخارج ولا يعرف مصدر مياهها المحملة بالحصى الناعم والرمال.

الوقت قارب الظهيرة ودرجة الحرارة أخذت بالأرتفاع تدريجيا" وبدأ البعض يشعر بصعوبة التنفس بسبب مشاكلهم الصحية المختلفـة وخاصة المدمنين على التدخين وهـم يبذلون جهــود كبيرة وبشتى الطرق للحصـول على السكائر، تم توزيع اللاجئين على الغرف الصغيرة بواقـع كل عائلتين في غرفـة لا تتجـاوز مساحتها ثلاثة أمتار مربعة، ونظرا" لتنوع اللاجئين من الناحية القومية والدينيـة والأجتماعية وللظـروف النفسية التي يمرون بهـا والصعوبات التي مروا بهـا في طريقهـم الى أيران ظهـرت بينهم المشاكل منـذ الساعات الأولى، لذلك لجأت أدارة المعسكر الى تقليص عدد العوائل ليصبح عائلـة واحدة في كل غرفــة ووزعت بطانية عسكرية قذرة ووسادة واحدة لكل فرد، أعداد اللاجئين بأزدياد يوميا" ولا يتسع المعسكر لهم ، درجة الحرارة لا تطاق، الغرف تفتقد الى المراوح والماء وكان البعض يفضل الخروج من الغرف ليقف في ظهر البناء حيث الظل عسى ان يحصلوا على نسيم الهواء ويغسل رأسه بماء الحنفيات المحمل بالرمال .

توفير الطعام الى اللاجئين هي المشكلـة الرئيسيـة التي يعاني منهـا اللاجئين في المعسكر، فمع تزايـد اعـداد اللاجئين بعد وصولنا الى عدة مئات خلال أسبوعين تضاعفت الأزمة وكان يتحتم علينا الجلوس في الصباح الباكر لنقف في طوابير طويلة كي نحصل على رغيف خبز لكل لاجئ مع قطعة صغيرة من الجبن هذا أذا حالفنا الحظ ووصلنا في الوقت المناسب قبل ان يغلق باب غرفة توزيع الخبز لنعود بخفي حنين ونتيجة لذلك فضلنا الأستغناء عن وجبة الفطور صباحا" والتركيز على وجبة الغداء فقط رغم بساطتها.

كانت وجبــات الطعام توزع في البدايـة على العوائل وهم في غرفهـم في اواني معدنية وعلى شاكلة توزع وجبات الطعام الجاهز على السجناء ويبدوا ان العاملين في المعسكر لديهم خبرة في ذلك سابقــا" عندما كان المعسكر سجن للسجناء العاديين وحـول فيما بعد كمعسكر لللاجئيـن العراقيين، لاقت عملية توزيع الطعـام ونوعيته الرديئة أعتراض جميع اللاجئين لذلك لجأت الأدارة لتوزيع المواد الأولية أسبوعيا" وهي عبـــارة عن كميـــات قليلة لا تفي بالغـرض من الفاصوليـة اليابسـة والحمص واللوبيـاء الجافـة وقليل من معجون الطماطة والسكر والشاي ووفرت ادوات طبخ بسيطة ومدفأة نفطية قديمة مستهلكة لكل عائلتين لأستعمالها في الطبخ وبذلك يكون لكل عائلة الحرية في تهيئة الطعام بالشكل الذي تراه مناسبا" لها.

كنا نقضي الساعات الطويلة لتحضير الطعـام على حرارة المدفـأة الهادئـة مما سبب بحـدوث مشاكل بين العوائل بسبب ان كل منها تريد ان تطبخ على مزاجها وبالوقت الي تراه مناسبا" لها غير مبالية بالآخرين.
وبسبب المعاناة اليومية التي يمر بها اللاجئين وسوء ادارة المعسكر وقلة المواد الغذائيـة والأنسانية بـدأ التذمر يظهر على البعض منهـم مما دفعهـم الى محاولـة الهرب من المعسكر بعبورهم الأسلاك الشـائكة وتوجههم نحو الجبال الشاهقة المحيطة بالمعسكر عسى ان يجدوا منفذا" نحو الحرية، لكن مع الأسف فشلت محاولاتهم تلك بعد مطاردتهم من قبل حرس الثورة ووقعوا في الأسر وتمت معاملتهم معاملة قاسية وتعرضوا للتعذيب.

بعد أيام ونتيجة لتزايد اعداد اللاجئين أخذت ادارة المعسكر وبناء على تعليمات حكومية عليا بفصل العوائل المكونة من الزوج والزوجة والأطفال دون االسادسة عشرة من العمر عن الشباب العزاب غير المتزوجين الذين تجاوزت اعمارهم الثامنة عشرة حتى لو كانوا مع عوائلهم وتنظيم قوائم بأسمائهم لغرض نقلهم الى معسكرات أخرى خاصة بالعزاب بعيدة لتخفيف الضغط على المعسكر مما اثار غضب جميع اللاجئين وحدثت مشكل كبيرة بين هذه العوائل وادارة المعسكر حيث أرسل هؤلاء الشباب الى معسكرات نائية موزعة في مناطق عديدة من أيران وتمت معاملتهم بقساوة وتعرضوا الى التعذيب وبقوا فيها لسنوات خاصة مع الذين أعترضوا على سوء الخدمات المقدمة لهم حيث أتهم البعض منهم بالتجسس لصالح النظام العراقي أنتقاما" منهم .

نتيجة لهذه الحالة المأساوية أصيب الكثير من اللاجئين في المعسكر بسوء التغذية، لا أثر لحليب الأطفال أو الفواكه علما" ان المنطقة مشهورة بزراعة الفاكهة، لم نذق طعـم اللحوم طيلة بقائنا في هذا المسكر، الماء الملوث وغير الصالح للشرب أدى الى ظهـور أمراض معوية حـادة وأنواع مختلفة من الأمراض الجلدية لعدم توفر المياه والمرافق الصحية والحمامات لغرض الأستحمام طيلـة أكثر من اسبوعين وفي هـذا الجـو اللاهب والرمال ازدادت المشاكل مع أدارة المعسكر يوميا" والتي تجابه بالقمع، في الوقت الذي كان راديو ايران باللغة العربية يدعوا العراقيين كل ساعة للتوجة الى جمهورية أيران الأسلامية حيث الرعاية والأهتمام من قبل الحكومة الأيرانية.

استمر الحال في المعسكر على هذا المنوال لغاية نهاية شهر آب / 1986 تقريبا".

قبل نهاية شهر آب / 1986 بأيام وصلت عدة لجان تحقيقية حكومية من السافك ( الأمن الأيراني ) لغرض التحقيق مع اللاجئين لتحـديد أسباب لجوئهم ومصيرهم ومستقبلهم وبدأت هــذه اللجان بالتحقيق وحسب القوائم المعـــدة مسبقا" أعتبارا" من صباح يوم 31 / آب / 1986 وهذا ما سوف نتحدث عنه في الحلقة القادمة.


يتبع في الحلقة الثالثة