مخيم ( جهـــرم ) معسكر مغلق معزول مخصص لعوائل اللاجئين، محاط بالأسلاك الشائكة وبسلسلة من الجبال الوعرة المتداخلة التي تشرف على المخيم من كل الجهات وتحت حراسة مشددة، قــد ينسى اللاجـئ أحيانــا" انه مسجون داخلــه طوعيـا"، الخـوف من المستقبل المجهــول، عـذاب يومي، ســوء التغذية، قلة في التركيز وشرود في الذهن، لا يعرف اللاجئ متى ينتهي التحقيق معه ليغادر ايران وليس امامه غير الصبر.

في ظهر اليوم الأول من شهر كانون الأول / ديسمبر/ 1986 أزدادت سرعة الرياح بشكل مفاجئ، وغطـت السماء السحب السوداء تبعهـا هطـول أمطــار غزيـرة داخـل المخيـم والمناطق الجبليـة المحيطة، وشكلت الأمطار هذه سـيولا" جارفة كانت من الشـدة لدرجة أنها حطمت أحد السدود الصغيرة في المناطق الجبلية البعيـــدة عن المخيم وأدى ذلك الى أحداث صوت عالي جــدا" اشبه ما يكون بصوت أنفجار هائل سمعه كل من كان في المخيم من اللاجئين.

أرض جهرم والمناطق المحيطــة بها ارض حصوية رمليـة وسهلة الأنجراف بأعتبارها أمتداد للصحراء المحيطة بالمخيم ولم نكن نتصور ان السيول التي شكلتها الأمطار في طريقها ألينا وبهذه السرعة جارفة أمامها كل شئ، لم تمض ساعة وأذا بسيول جارفـة تجتاح المخيم من كل جوانبـه، ليس هناك وقت للتفكير أسـرعنا لغرفتنا الصغيرة لوضع الفراش وما نملكه من حاجات تموينية بسيطة متبقية على قاعدة نافذة الغرفة المرتفع نسبيا" وبدأت المياه بالأرتفاع تدريجيا"حتى وصل أرتفاعها ما يقارب النصف متر أو أكثر جارفة كل شئ أمامها وفاجئت الجميع محدثة تدميـرا" واسعا".

بدأ الصراخ وطلب النجدة يعلو في كـل زاوية من زوايا المخيم، الكل يظلب المساعدة، العوائـل، الأطفال، المرضى الغيــر قادرين على الحركة فقد دخلت المياه في كل غرف ومرافق المخيم وغطت الرمال والحصى كل شئ، أخذنا نسبح بالماء داخل غرفتنا حالنا حال الآخرين ونحن لا نعلم ما يخبئه لنا القدر، هل سيرتفع السيل أو يحافظ على مستواه الحالي خاصة والأمطار تهــطل بأستمرار وتيــار الماء سريع يمنع من الحركة ومتجـه لخارج المخيم وهـو يأخذ مساره الطبيعي باتجــاه المنخفضـات، غادرنـا غرفتنا الى الخارج خوفــا" من سقوطهــا، الماء غطى طرقات ومرافق المخيم، تركنا كل شئ بمكانه فليس لدينا شئ أغلى من الحيـاة حاملين ما خف حمله على أكتافنا، البعض من اللاجئين حمل أطفاله على الأكتاف خوفا" من الغرق.

بدأ الظلام يخيم على المعسكر ولا نعرف أين نتوجه، ليس هناك وجود لأدارة المخيم، فامكانية للنوم معدومة تماما" توجهنا الى عائلـة أحد الأصدقاء حيث يسكن في غرفة تقـع على مرتفع فلربما لم تصلهــا السيول أو قد وصلتهـا ولكن بنسبة أقل ويمكننا عندئذ قضـاء الليل عندهم حتى صباح اليوم التالي، حركة سيرنا بطيئة متعثرة يتبعها بين الحين والآخر السقوط في الماء بسبب سرعة التيــار والحفـر الكثيرة وما جرفته السيول واغلقت الطرق التي ضاعت ملامحهـا، صراخ عن بعـد لأحـدى الأمهات اللاجئات وهي تضع أحد أطفالها على كتفها طالبة منا مساعدتها في أنقاذ طفليها الآخرين من الغرق فليس لها من معيل، توجهت والنصيرة ام سوزان نحوها ببطئ وسط صراخ الاطفال ونحن نرتجف من شـدة البرد، تناولت أحــد الأطفال ووضعته حـول رقبتي وهكــذا عملت النصيرة ام سوزان وسرنا باتجــاه المنطقـة المرتفعــة، السيول لا زالــت مستمرة وكأنهـا نهر دجلة وقت الفيضان في فصل الربيع ولكنها لم ترتفع عن مستواها حاملة الكثير من الأخشاب وسيقان الأشجار والرمال والحصي والتي نشعر بها تحت أقدامنا.

في طريقنا مررنا على المخبز مصدر الخبز الوحيد الذي يجهز اللاجئين بالخبز يوميا" وقد دمرت السيول اركان أساسية منه وأدركنا مسبقا" اننا سنعاني من أزمة غذائية وايام صعبة في الأيام القادمة، الكهرباء قـد قطعت، جثـث بعض القرويين جرفتهــا السيول من مناطق عـدة وتعـلقت على الأسلاك الشائكـة المحيطـة بالمخيـم والتي بقيت صامـدة أمام التيــار، حركـة اللاجئين مستمرة في اتجاهات مختلفة، الكــل يبحث عن ملجأ حتى الصباح، عويل بعض السيدات بوفاة احد من كبار السن اثناء نومهم، البعض يلوم نفسه على توجهه الى ايران، وآخر يشتم نفسه ويلعن اليوم الذي ولد فيه ويشتم أدارة المخيــم التي لم تقـم بأي أجــراء لحماية اللاجئين أو تبليغهـم بالسيول قبل وصولها.

بعــد مرور اكثر من ساعـة في ميـاه السيل وصلنـا لغرفـة الصديق بعــد ان ضاعت معالمها، كانت الغرفة والغرف المجاورة لها سالمة وبعيدة عن مجرى السيول ولكنها رطبة وباردة لدرجة كبيرة وقد سبقنا العديــد من اللاجئين لمعارفهم في هذة المنطقـة المرتفعة نسبيا"، فتحنــا المدافئ النفطية للبحث عن دفئ كاذب وأخذنا بتجفيف اجسامنا وملابسنــا وأحذيتنا والتي أخــذت منا ساعات طويلــة وحتى ما بعــد منتصف الليل ولا أتذكر ان كنا قـد نمنا في تلك الليلة أم لا نتيحة القلق وخوفا" من أمطار وسيول جديدة، كنا نخرج كل ساعة وننظر الى السماء بقلق لنتأكد من امكانية تحسن الجو وأنخفاض مناسيب المياه في الشوارع المحيطة تدريجيا" وكان هناك بعض الأمل.

في صباح اليوم التالي كانت الأمطار والسيول قد توقفت وأشرقت الشمس ولكن المخيم قد تحول الى بركة من الأوحال والرمال وبقايا سيقان الأشجار والحيوانات النافقة ، لقد عزل المخيم عن العالم الخارجي وكل شئ قد دمر، طرق المواصلات والجسور، محطات الوقود التي تغذي المخيم، محولــة الكهرباء، المخبــز، عمما يهدد بمجاعة ما لم تأتي مساعدات خارجية فورية لأنقاذ الوضع.

ما بعد الظهــر وعندما انخفض مستوى المياه عدنا الى غرفتنــا ونحن نتعثر بمخلفات السيول لنجـد كميات هائلـة من الرمال الرطبة والحصى تغطي أرضيــة الغرفـة وتحتـاج لساعات لتنضيفهـــا، ولكن كيف ؟ فليس لدينـا ما يمكن ان نستعمله لأزالة ما تراكـم فيها، جمعنا بعض سيقان الأشجار المتكسرة التي حملتها السيول لتكون ادواتنـا البسيطة في العمل لتجميع ونقل هذه الرمـال والحصى بأواني الطبخ الى الخارج وبنفس الوقت جمعنا بعض السيقان لأيقاد النار لتجفيف أرضيتها وجدرانها لتقنين أستعمال النفط الموجود في المدفأة لغرض الطبخ للأيام القادمة حيث نتوقع حدوث أزمة غذائية بسبب أنقطاع طرق المواصلات، بعد ساعات أنجزنا العمل وأصبحت الغرفة جاهزة للنوم ولكن همنا الآن المواد التموينية والمياه الصالحة للشرب والنفط والخبز.

سبعة أيام متتالية من الأرباك والفوضى قد أصابت المخيـم، عـدم توفـر الخبـز الكافي والفرن يحتـاج الى ترميم لما لحق به من أضرار، ماء الحنفيات أصبـح على شكل مستحلب من الطين والماء، البرودة الشديـدة في هــذا الشهر تحتم علينــا أستعمال المدافئ التي تفتقـــد الى النفط، الذهاب الى مركـز المدينـة لشــراء الأحتياجـات الضروريـة غيـر ممكـن بسبب أنقطـاع طـرق المواصلات، ظــروفنا الصحيــة اخذت بالتدهور، الطبخ مستحيل لعــدم توفــر النفط ، عــوائـل أكتسحت السيول غرفهم وأتلفت كل شئ لديهم وهم يقفون طوابير عسى ان يحصلوا على بعض الأفرشة والبطانيات والنفط والخبز والتموين عموماً، اضافة الى الطلب على مادة ( الشب ) وهي عبارة عن مادة كيمياوية ( كبريتات الألمنيوم ) لتصفية المياه من الأوساخ العالقة فيه ..الخ ، ووسط هذه الفوضى لم يلاحظ اي اتمام من قبل المسؤولين وادارة المخيم وما سيحدث في الأيام القادمة.

ووسط هذه الفوضى حدثت مشاكل عديــدة بين اللاجئين وأدارة المخيم لسوء ادارتهـــا ولتقصيرهـــا الواضح في تقديم الخدمـــات السريعة، راديو بغداد يستغل الوضع المأساوي لللاجئيين ويذيع خبر جرف السيول للمخيــم مستهزئا" باللاجئين الذين تركـــوا وطنهم ولجئوا الى أيران لأكل الفاصولية والحمص والعدس كل يوم ويطالبهم بالعودة الى الوطن معززين مكرمين مع وعود بأصدار عفـو شامل عنهم مما ترك اثـرا" نفسيا" على اللاجئين ولكن كيف العــودة والجميع في معتقل أسمه مخيم جهرم.

مرت أسابيع من المعاناة والمشاكل اليومية قبل أن يعــود الوضع الخدمي وترجـع الأمور الى وضعها قبل السيول وعدنا مع اللاجئين الى الأصطفاف من جديد في طوابير للحصول على المتطلبات اليومية من الخبز والمواد الغذائية الأخرى وسط مستقبل مجهول للجميع .

 

يتبع في الحلقة القادمة والاخيرة

النجاة من قصف الطائرات العراقية