من الذاكرة - النجاة من قصف مدينة الأهواز
الحلقة السابعة والأخيرة
بعد الأنتهاء من آخر تحقيق لنا في معسكر ( جهرم ) لللأجئين حصلنا على موافقة السلطات الأيرانية لمغادرة ايران، كان هـــذا الخبـر مفرحا" لنـا كونه سيعجل من مغادرتنا لايران بعد ما يقارب العشرة اشهر صعبة مررنا خلالها بعدة معسكرات لجوء ويمكننا الآن القول انه بأمكاننا ان نغادر ايران في اي وقت ما لم تحدث لنا مفاجئات ىخرى لذلك قررنا التوجه الى اولاد العم في مدينة الأهواز لننقل لهم هذا الخبر المفرح.
بعد يومين من وصولنا الى الأهواز اخذت الجبهة العربية لتحرير الأهواز المقربة من النظام العراقي تنشر أخبار في المدينة تؤكد ان النظام العراقي سيقوم بقصف محطة القطار المجاورة لمحطة الباصات بعد وصول معلومات استخبارية مؤكدة للجيش العراقي تبين أن الجيش الأيراني سوف يرسل تعزيزات عسكرية الى جبهة القتال بواسطة القطارات لذا تقرر قصف المحطة قبل انطلاق هذه التعزيزات ومع الأسف لم يأخذ الأهوازيين هذا الخبر محمل الجد ولم يأخذوا الأحتياطات اللازمة لأنهم سمعوا مثل هذه التهديدات سابقا" لذلك وتجنباُ لما قد يحصل من قصف محتمل قررنا العودة الى معسكر ( جهرم ) لتصفية امورنا فيه والتهيئة لمغادرة ايران.
توجهنا في الساعة الرابعة عصرا" الى محطة الباصات المجاورة لمحطة القطار المقرر استهدافها من قبل النظام العراقي برفقة اثنان من اولاد العم، دقائق قليلة من الأنتظار مرت حتى بدأنا نسمع صافرات الأنذار في المدينة تعلن عن بدأ غارة جوية عراقية على أهداف مختارة، لقـد تعـود الجميـع على هــذه الصافـرات وأعتقدوا كالسابق ان الغارة ستكون على مواقع عسكرية بعيـدة خارج المدينة أو أنهـا غـارة وهمية، وبمرور الثوان تبين العكس وبدأت المدفعيـة المضـادة للطائرات وأنطـلاق الصواريخ تسمع في ضواحي المدينـة وداخلها.
ودعنا اولاد العم وطلبنا منهم مغادة المكان بسرعة والعودة لبيوتهم، اخذنا مكاننا الباص مسرعين فلم يبقى إلا دقائق قليلة لأنطلاق الباص حسب الموعد المحدد، المدفعية المضادة داخل المدينة بدأت تطلق حممها على الطائرات المغيرة وأخذنا نسمع اصوات الأنفجارات وأنطلاق صواريـخ الطائـرات في داخل المدينة وبالقرب منا وفجأة أرتفع الباص بركابه وأرتطم في الأرض نتيجة قوة الأنفجارات وعصف الصواريخ المنطلقـة، تطايـر الزجاج المتكسر في كـل مكان، الدماء أنتشرت على وجـوه الركاب، دب الرعـب والهلـع على الجميع، غـادرنا الباص مسرعين واخذنا وضع الأنبطاح على الأرض واضعين أيدينا على رؤوسنا تفاديـا" للشضايـا المتطايرة من الزجـاج والصواريخ فالغارة مستمرة، الدماء تغطي وجوهنا وأيدينا انا وزوجتي ام سوزان وكل واحـد يتلمس جسمه ويسأل الآخر هل هو بخير أم لا ؟ هل يشعر بألـم في مكان ما ؟ القنابل والصواريخ تطلق بشكل عشــوائي على محطة القطار ومحيطها ولا نسمع في هذه الدقائق غير اصوات الأنفجارات وصراخ الجرحى من حولنا، العديد من جثث المدنيين بالقرب منا، سُحب التراب والغبار تغطي المدينة، ثوان وجاءت مجموعة اخرى من الطائرات لتلقي صواريخها ثانية تبعها زيادة في عـدد القتلى والجرحى، فرق الـدفاع المدني انتشرت في الشوارع ترشد المواطنين للملاجئ وجاء أحدهم بعـد ان رأى الدماء تغطي وجوهنا ليرافقنا الى احـد الملاجئ تحت سلم احدى البنايات القريبة حيث تم حشر العشرات من المواطنين وعلى وجوههم علامات الرعب والخوف، لم نهتم بجروحنا المؤلمة حينها بالرغم من محاولات البعض لأقناعنا بالتوجه الى أحدى المستشفيات لتلقي العلاج، مرت اكثر من نصف ساعة قبل ان نسمع صافرات الأنذار التي تعلن انتهاء الغارة الجوية.
خرجنا الى الشارع ثانية لنرى المأساة امامنا فالموت والدمار والصراخ في كل مكان، فالغارة على قوتها تدل على ان هناك العشرات من القتلى على الأقل في صفوف الجيش الأيراني في محطة القطار المجاورة والعشرات من المدنيين في شوارع المدينة بين قتيل وجريح تقوم سيارات الأسعاف بنقلهم الى المستشفيات.
عدنا الى محطة الباصات عسى ان نلحق بالباص المتوجه الى ( جهـرم ) ان كان موجودا" وقيل لنا بأنه غــادر المحطة قبل قليل وليس هناك باص آخر إلا في اليوم التالي لـذا قررنا العودة الى بيت اولاد العم ولكن كيف نصلهم والمدينة أصبحت مدينة اشباح ونحن بهذا الحال ولا زالت جروحنا تنزف، اخذنا نبحث عن سيارة تكسي دون جدوى، دقائق ونحن ننتظر حتى شاهدنا احد معارفنا بسيارته وهو يبحث بقلق على ابنتـه التي جائت الى طبيب الأسنان ولم يعرف مصيـرها، بحثنـا معه دون جـدوى، عدنـا معه بسيارته الى محلات اولاد العم وكان الجميع بخيـر لحسن الحظ رغم ان أضرارا" كبيرة قد أصابت محلاتهـم وسياراتهـم التي دمرتها شضايا القنابل والصواريخ الكبيرة وهي تبعـد أكثر من ثلاثة كيلومترات عن محطة القطار أضافة الى إن عدد من بيوت الأقارب في مناطق مختلفـة قريبة من محطة القطار قد أصيبت أيضا"، عندئذ توجهنا برفقة احدهم الى عيادة أحد الأطباء القريبين لأخراج شضابا الزجاج الذي تسبب في جروح عديدة في وجوهنا وايدينا وأضطر الطبيب الى خياطة بعض الجروح في يدي وجبهة النصيرة ام سوزان.
في اليوم التالي غادرنا مدينة الأهواز الى معسكر ( جهرم ) ونحن في وضع نفسي متعب بسبب ما شاهدناه من ضحايا سقطوا يوم امس وبنفس الوقت تنفسنا الصعداء لحصولنا على بارقة أمل بمغادرة ايران حسب رغبتنا وقت ما نشاء وبلغنا ادارة المخيـم بذلك وعدنا الى الأهواز بعد توديع بعض الأصدقاء .
في الأهواز وبعد التشاور مع اولاد العم قررنا مغادر ايران باسرع وقت لتجنب ما قد يحصل من تطورات في الحرب، قمنا بمراجعة السفارة السورية عدة مرات لغرض الحصول على فيزة لدخول سوريا ولكن محاولاتنا فشلت لعـدم وجـود دعـوة لنا مسبقة من أحـد المعارف في دمشق لدخول سوريا.
لذلك لم يبقى امامنـا غير خيار واحد هو الأتصال بالأخوة في دمشق لغرض الحصول على موافقة المخابرات السورية لدخول سورية وفعلا" وبجهود منظمة الحزب والأخوة في دمشق تمت الموافقة خلال أسبوع ووصلت نسخة منهـا الى مطار دمشق وكان هذا الخبـر مفرحـا" لنا جميعا" وعلى ضـوء ذلك تم حجز تذاكر السفر على الخطوط الجوية الأيرانية.
رافقنا الأخوة اولاد العم الى طهران وذللوا كل المعوقات في المطار وبعدها تم توديع الجميع، وخلال أنتظارنا في المطار كنا نسمع بين فترة واخـرى صافرات الأنـذار التي تشير الى غارات جوية، الوقت يمر بشكل حرج خوفا" من قصف جوي مرتقب على المطار، القلق ينتابنا طيلة الوقت وحتى أقلاع الطائرة باتجاه الشمال نحو تركيـا ثم أخذت المنعطف نحو دمشق نزولا" حيث كان في أستقبالنا هناك اولاد العم ومن هناك بدأنا مرحلة أخرى من الحياة نحو المستقبل المجهول .