لم أتساهل بحياتي مع مهمة حراسة أبداً، مهما كان مكانها ومناسبتها. وما زلت أتذكر أول حراسة لي في معسكر الناعمة جنوب بيروت. وقفت تحت شجرة أمام خيمتنا والظلام يلف الوادي، وشخير الأشجار النائمة الطائر مع الريح يشوّش عليّ مهمتي. شغّلتُ حواسي كلها بأقصى طاقتها لرصد خطى العدو (أتضح أنها سلسلة "أكاذيب رفاقية" همس بها لي مسؤول الموقع عن إحتمال تسلل إسرائيلي)، وحين سمعت خطى بعيدة تقترب، أطلقت صوتاً أردته أن يكون مخيفاً الى أقصى حد: من هناااااااك؟: فكان الجواب: ضحكة مجلجلة. "أبو عراق" حسن الدفاعي المتجول ليلاً قد إكتشف صوتي: "ماخذها جديات أبو وليد، شبيك تصيح؟".
الحراسة حين تتحول الى إجراء روتيني، لأغراض تدريبية تعليمية، تدخل في مجال المنغصات المملة، إذ لم تكن هناك ضرورة لوجود حارس لكل خيمة. من الواضح أن هدف الحراسة هو إشغالنا لا أكثر، فللموقع مدخلان محروسان بما يكفي من قبل حراس متمرسين، إضافة الى وجود مواقع صديقة تحيط بموقعنا، ولذلك كان حراس الخيم يتحايلون على التعليمات. أطرف تحايل كان من إبداع الشهيد ابو يوسف: يتغطى بالبطانية أثناء الحراسة ويقرأ كتابه المفضل "نقد الفكر الديني" على ضوء (اللايت)، وحتى ينتبه لقدوم دورية التفتيش، يغير موقع السّلم الخشبي الذي يتوجب على القادم لخيمته إرتقاءه، فيدخل الدورية في إرباك وهي تبحث في الظلام عن السلّم وهنا ينتبه ابو يوسف ويلقي باللوم على الدورية التي لا تعرف كيفية الوصول للخيام!.
وصلتُ كّردستان، الآن لا مجال للمزاح ولا للتهاون فنحن لا نتدرب بل نواجه!. حياتك الآن بالذات، ثمينة جداً، بل أنها لا تقدر بثمن، فهي ليست حياة واحدة، لأنك حين تفقدها تفتح الدرب لمن سينهي حيوات جميع من ائتمنوك على أنفسهم. تخيل أن وغْداً مدرباً على النحر، سيزحف اليك في الظلام متسللاً بحذر من بين الصخور، سوف لن يستغرق الأمر أكثر من دقيقة ويحز رقبتك. لن تلحق أن تصرخ، سيمر من فوق جثتك معطياً الإشارة لمجموعته هامساً: تقدموا ألآن الطريق سالكة.. وسيفتكون بالجميع نياماً مع أحلامهم.. يا لثقل مهمة الحراسة..
أوائل عام 1980 قبل الحرب مع إيران، كانت قوات النظام على بعد قليل من مواقعنا، لذلك تحتم علينا في "كلي كوماته" أن ننظّم مع الحزب الديموقراطي الكردستاني "السنكر" و "المراباة" وهما فعاليتان نهاريتان و "الكمين الليلي". عملية "السنكرة" هي المراقبة من أعلى قمة مثل الصقر، وتبدأ عند الفجر بعملية تسلق شاقة، عمودية تقريباً في جزئها الأخير. أما "المراباة" فكانت أكثر الفعاليات قرباً لنفسي حيث السقيفة النائمة بحضن الغابة تشرف على الزاب المتلوي كأفعى مستفَزة، كانت المراباة تثير بذاكرتي صوراً قريبة من صور عمليات ثوار أمريكا اللاتينية في غابات بوليفيا..
في أول أيامي في "كوماته" بُلّغت بالذهاب الى "الكمين الليلي" مع الشهيد أبو آذار. هناك سينظم الينا أربعة من الحلفاء، وكان الطريق الى مكان الكمين أقرب لمكان تصوير أفلام رومانتيكية من أن يكون درباً للوصول لموقع قد لا يعود المرء بعده حياً. جداران من الصوان العالي ينداح تحتهما منبسط أخضر توسطته بحيرة إجتمعت عند ضفافها طيور القبج الملونة، لوحة للحياة لا للموت، لكن ذلك كله لن يغير من الأمر شيئاً، فنحن ذاهبون كي نكمن لخطوات العدو في بيئة جبلية تجعل المباغتة محتملة دائماً.
كان مكان الكمين فسحة عالية محاطة بالصخور تحرس فتحة الوادي الذي ينساب الزاب فيه ماضياً بإتجاه موقع فوج "باطوفه". حولي صخور سوداء وتحتي هدير الزاب الغاضب، وأسفل الوادي يدعّي العدو النوم لكنه يقظ ويستعد للتسلل!، أما رفقتي فنيام قد أودعوني رؤوسهم. ترى كيف يمكنني تمييز خطى ذاك الوغد الذي دربوه لكي يزحف نحوي في الظلام ليحز رأسي ثم يهمس: تقدموا ألآن الطريق سالكة؟ ومن أين سيأتي؟ من الخلف، من الأمام أم من الجوانب؟، كنت أتخيل بين حين وآخر رأساً يبرز من بين الصخور أو أتوهم صوت حشرة تغازل خطيبها! همساً فأحسبه صوت مسلح يستعد للإنقضاض علينا. كانت ساعة الحراسة ساعة رهيبة، حين أكملتها أحسست براحة مبعثها تحرري من مسؤولية ثقيلة رغم أن حياتي الآن أمست مسؤولية غيري بعد أن كانت ملكي أنا. ما أغرب الإنسان!، لم تمرق ساعة على إندساسي بين صخرتين وإنزلاقي لعالم النوم، حتى مزق نوم الجبال الثقيل صوت إطلاقة هائلة تخيلتها ضربت الصخرة التي تسترني، فقمت هلعاً مأخوذاً بالمفاجأة وبندقيتي بيدي: لقد فعلها أبناء الضباع وتقدموا إذن!. قبل أن أشرع بتوجيه بندقيتي بإتجاه شبح العدو المتقدم الذي لا أراه، أحسست بكف أبو آذار الزاحف نحوي وهي تقع على كتفي، همس بأذني: الحارس الحليف رأى "شيئاً" يتحرك في الظلام فأطلق النار وإتضح أنها كانت أذرع زميله النائم التي كانت تهش البعوض!.
لحظات وأز الصخر عاكساً صوت إنفجار قذائف الهاون التي إنهالت من الفوج.. قذيفة هنا وأخرى هناك وثالثة في الماء ورابعة بعثرها الجبل المقابل فإرتدت الينا عاوية بأحشائها الملتهبة وإشتعل الوادي زعيقاً.. لقد عرفوا مكاننا بدقة لامثيل لها، كشَفَنا مقاتل البعوض!.
بان الصبح، والقذائف تتوالى ثم حلقت هليكوبتر فوق رؤوسنا جيئة وذهاباً وكأنها تبحث عن خاتم سقط من طيارها بين الصخور.. عراقية أم تركية؟ لافرق المهم أنها كانت تبحث عن ذاك الذي أطلق رصاصة البارحة.. على البعوض.
النصير الشيوعي العدد 38 السنة الرابعة أيلول 2025