وداعا لعالم الوهم

 

 ما هي الدروس التي يمكن استخلاصها من الأحداث في أفغانستان؟

بقلم ديميتري إيفستافاييف*

المصدر: الصحيفة الأدبية  

ترجمة وتلخيص عادل حبه

 

* ديميتري استافسيف، أخصائي قي العلوم السياسية وفي الشؤن لأمريكية، برفسور في المدرسة العليا للإقتصاد، وأخصائي في المسائل السياسية-العسكرية.

 

 

ستحدد فوضى مطار كابول، حتى وإن كانت هناك بالفعل خطة ماكرة من قبل طرف مسؤول عن ذلك، التصور العام للمستقبل القريب أكثر بكثير من حديث العارفين عن "أجندة المناخ" والحاجة إلى مكافحة الاستهلاك المفرط. إن وعي الإنسان المعاصر مُرتَّب بحيث يتمسك بالصور وليس بالمعاني. هذا هو جوهر الزمان الذي يمر أمام أعيننا عن التاريخ. وحقيقة ذلك إن العولمة (على الأقل بالشكل الذي تم تقديمها وترويجها من قبل "لحلفاء الغربيين الجماعي" ) أصبحت تاريخاً واضحاً حتى لجوزيف بايدن..

 

لكن المشكلة ليست فقط في مقطع من التفكير الذي أحاط بالبشر من جميع الأعمار والأعراق والأصول التاريخية. إن التفكير بالصور، مفيد في حد ذاته، ويفتح الطريق إلى تحرير وعينا من أوهام عديدة، وخاصة في المجال الإعلامي والسياسي أولاً ، ثم في الميدان الاجتماعي. خلاصة القول، إن كل ما أحاط بالبشر في العشرين عاماً الماضية، وبدى وكأنه لا يتزعزع وبديهي، إلاّ أنه إتضح أنه مجرد وهم وزيف.

 

 

مقاتلي الطالبان في مطار حامد كارزاي

 

على مدى السنوات 7- 10  الماضية، عاش البشر في عالم الأوهام، حتى أنهم لم يوجهوا على إختلاف بصيرتهم صوب "العالم الموجود وراء الكواليس" السيء الصيت. لقد حدسناهم بأنفسنا، وحولناهم بأنفسنا إلى ظاهرة بديهية. فالديمقراطية مع انتخابات حرة، تحولت إلى منافسة بين فاحشي الثراء و ومتوسطي الثراء. وإن اقتصاد السوق غير قادر على التطور دون ضخ ائتماني مستمر. وأضحى الاستهلاك المفرط على أساس زيادة الكمية مع انخفاض مستمر في الجودة. وأضحت الحرية، وإزالة القيود الطبقية والوطنية، مصحوبة بإقامة حواجز اجتماعية (على سبيل المثال ، في التعليم والطب)، والتي لم يكن من الممكن تصورها حتى قبل 50 عاماً. وأدى اللحاق بالتنمية الاجتماعية إلى تدهور نوعية حياة الأغلبية وتمركز الثروة الفائقة عند قلة من الناس. وأصبح الانفتاح على المعلومات وإمكانية الوصول إليها، إلى إضفاء أشد للرقابة، وصولاً إلى "محو" الشخص من فضاء المعلومات.

وخلف كل هذه الرموز المقلوبة يختفي فراغ ذي مغزى، فراغ مغطى بمزيد من أشكاليات الكلمات المعسولة. إنه مؤثر، على سبيل المثال، كيف تم استبدال "غسيل الدماغ" في علم الاجتماع الغربي بـ "روايات متتالية". لكنهم لم يعودوا قادرين على إخفاء حركة الإنسانية في طريق حضاري مسدود، حيث تمتلئ الحياة بأداء لا نهاية له من النزوات في السياسة، وفي الفن، وفي المجتمع.

لنكن صادقين ، نحن نعيش في عالم الوهم، وحتى إدراكنا فهو وهمي ، وهو أمر مثير للاشمئزاز، ولكنه سهل. فهذا يزيل عن الجميع المسؤولية. يبدو أن الأيديولوجيين في عالم الوهم يقترحون: العيش وكيف تعيش، فلست أنت بحاجة إلى البحث عن أي شيء، فقد تم العثور على كل شيء قبل أن تولد، وما عليك إلاّ أن تستمتع بالحياة اليومية. يبدو أن الإنسانية ، بعد آلاف السنين من النضال من أجل الوجود والقرن العشرين الدموي، والتي أثارت التساؤل حول بقاء النوع البشري العاقل ، قد قررت اللجوء إلى الراحة. في الواقع، مرت البشرية بنفس الشيء كما حدث للمجتمع السوفيتي خلال فترة بريجنيف، التي قررت أن تأخذ قسطاً من الراحة بعد سباق التعبئة، لكنها لم تكن قادرة على العودة إلى الحياة بعد "عطلة نهاية الأسبوع الطويلة". الآن يحدث هذا على نطاق عالمي تقريباً.

.

 

ألم نلاحظ كيف أن ما بعد الحداثة، عصر الثوار، والاختراقات في الفضاء وتكنولوجيا المعلومات، والغور في أعماق البحار، بل وحتى الأعماق الأكثر خطورة..... في أعناق النفس، فقد تدهورت تماماً بحلول عام 2010 وأصبحت عصر التفاهه؟ حيث يخطط معظم البشر في عدم العمل بعد الآن (فقط في الحصول على الحد الأدنى من الدخل المضمون) ، وفي نفس الوقت عدم التفكير ( يإستخدام الذكاء الاصطناعي).

 

لكن كان هناك فارق بسيط. فالعالم الحقيقي، هو عالم "الحديد والدم" ، عالم الصراع الشرس، عندما تكون حياة المرء تعني فلساً واحداً، وحياة شخص آخر أقل، عندها لا يذهب الإنسان إلى أي مكان للبحث عن عمل. وعالم الوهم موجود فقط حتى اللحظة التي تظهر فيها شكوك بأنه لا يمكن أن يكون الأمر غير ذلك. إن "مطار كابول" ليس هو مجرد صورة للرعب واليأس، ولكنه مثال على تصادم العالم الحقيقي وعالم الوهميات. وفازت، كما قد تتخيل، بالعالم الحقيقي، تلك "القوة الناعمة"، أي القدرة على التلاعب، ليس لأنها كونها لا تقوم بعمل، ولكن لديها تأثير أقل بكثير.

لقد تحلل وهم الخطة الأمريكية الماكرة، في "الاتفاق" مع طالبان ، وسداها ولحمتها الحصول على فرصة الرحيل للبقاء وإدارة الفوضى. لقد فقد الوهم عندما هرب "الجيش الأفغاني الجديد" المحشو بأسلحة حديثة. هناك وهم أغرب من "الدولة الشاملة" و "المؤسسات الديمقراطية" بشكل عام بأنها غير موجودة في الظاهر. كل ما كان الأمريكيون يبنونه باستخدام أحدث التقنيات الاجتماعية لسنوات قد تفكك عند واجهت قوة مستعدة للقتل والموت من أجل أغراضها الخاصة، وليس فقط السيطرة على "تسلسل الرويات".

في مطار كابول ، دارت نفس "المعركة العامة" بين الواقع الاجتماعي والواقع الافتراضي، مرتدين ملابسهم التقليدية، ويتعاملون بأدوات واتصالات فضائية وطائرات بدون طيار وأجهزة لوحية تعكس الوضع التكتيكي، وبين واقع عدواني عفا عليه الزمن وبتعلون النعال ويحملون بندقية كلاشينكوف من طراز الثمانينيات. بالطبع، كان من الممكن فهم النتيجة التقريبية لمثل هذا الاشتباك في وقت سابق  أثناء الحرب في اليمن. لكنها كانت بعيدة جداً عن أنظار الرأي العام ولم تومض كثيراً على الشاشات. من ناحية أخرى، تبين أن أفغانستان كانت ميداناً لتطبيق عصارة جهود "العالم المتحضر" لمدة عشرين عاماً، وكان يُنظر إليها على أنها إحدى أهم عقدة التناقضات. كما كان هناك مجرد وهم آخر: "بناء" "أفغانستان الجديدة" من قبل "الغرب" ، وإنخراطها في "العملية العالمية".