هل المادية تحطم المجتمع؟
المادية الفلسفية مقابل المادية الهدامة
بقلم البرفسور ريول پيپا*
المصدر:
ترجمة عادل حبه
العالم المادي وتشكل المجتمع البشري
إن الواقع الاجتماعي هو البناء المادي للعالم. ويرتكز الهيكل الأساسي للحياة الاجتماعية على العامل الاقتصادي الذي تقع معاييره ضمن نطاق ما نعتبره مادياً؛ أي الملموس في السياق العام لما يمكن للحواس إدراكه وبالتالي ما يمكن أن نتحسسه عموماً.
من خلال هذه الفكرة ، نؤكد على أن النشاط الأساسي الحيوي الذي يبقي المجتمع على قيد الحياة ويؤدي وظيفته هي الإنتاجية الاقتصادية. وبعبارة أخرى، فإن العالم المادي هو المنصة الرئيسية لاقتصاد المجتمع الذي يجعل الاقتصاد في ضوء ذلك أساساً لمثل هذا المجتمع.
إن اقتصاد المجتمع يضبط وينظم ويتحكم عملياً في جميع جوانب ما نسميه بالحياة الاجتماعية. في الواقع، لا يمكن أن يكون هناك مجتمع بدون الاقتصاد الذي من المفترض أن يجعله متماسكاً وفعالاً وحيوياً. ولذا، لا وجود للإقتصاد بدون أساس مادي. هو البنية التحتية لكل مؤسسة تنشأ في المجتمع. ولا يوجد شيء يمكن فصله عن البنية التحتية الاقتصادية.
إلى هنا، نحن نرى كيف يخلق الاقتصاد المجتمع ولا يدمره، وإن الواقع المادي هو الذي يجعل الاقتصاد أمراً عملياً وواقعياً. وبالتالي، لا يوجد اقتصاد بدون أساس مادي. وكحالة تكوين أيديولوجي، فالمادة التي يقوم عليها الاقتصاد، باعتباره بداية التفاعل الاجتماعي ونهايته، تشكل فلسفة المادية.
تم ظهور المادية الفلسفية من الواقع الذي لا جدال فيه للبيئة المادية وتفترض المادية الفلسفية أن الوعي البشري هو وعي البيئة المادية. وما يتم تلقيه على الفور من قبل الواقع البشري هو البيئة المادية التي نواجهها تلقائياً كبشر في فجر الوعي.
الوعي هو وعي شيء ما وأن هذا الشيء، بقدر ما يتعلق الأمر بالتجربة البشرية، هو الواقع الذي لا جدال فيه للبيئة المادية. إنها لحقيقة أن البشر فقط هم القادرون على إدراك الوعي، لكن حصل ذلك بعد فترة طويلة، أي خلال فترات بعد أن تأكدنا من وجود البيئة المادية بشكل لا يقبل الجدل. وبالتالي، تشكل أهم مبدأ للواقع البشري وهو ارتباطه بالبيئة المادية. وهذه هي المادية المتناولة فلسفياً.
لم تتم صياغة المادية الفلسفية بطريقة ميتافيزيقية، لأنها ترتكز على التجربة الإنسانية المباشرة للبيئة المادية، وليس على مفهوم ميتافيزيقي غامض ملفق منفصل عن الواقع المادي.
وهذا ما أجرؤ على تسميته "المادية المعرفية"، لأن أي بيان حول أي جانب من جوانب هذا الواقع يمكن التحقق منه وتبريره تجريبياً، وإن أي استنتاج يتعلق بأحداث تجري في ظل هذا الواقع يمكن أن يصبح صحيحاً وسليماً من خلال التحليل المنطقي.
من هذا الظرف، تنشأ أفكار لا تعد ولا تحصى وتتطور وتزدهر في العقل البشري. وببساطة، الواقع المادي هو النقطة المحورية الأساسية لإدراك الإنسان ومفهومه، بحيث تصبح الأفكار والمفاهيم كلها مستحيلة بدونه. لا يصبح الوعي ممكناً إلا عندما يكون هناك موضوع للوعي وتكون موضوعات الوعي موجودة أساساً في الواقع المادي..
المادية كأساس للمجتمع من خلال السعي الاقتصادي
لا يمكن أن تكون المادية بمعناها الفلسفي خصماً مدمراً للمجتمع البشري؛ إنها أساس المجتمع البشري. بدون إدراك حقيقة أن الاقتصاد يلعب الدور الأكثر أهمية في المجتمع، لن نتمكن من رؤية أهم قيمة للواقع المادي والانحياز الجذري للمادية الفلسفية.
منذ بدايات البشر، كان الواقع المادي هو الذي قاد مسار التطور الاجتماعي من عبر المسار الاقتصادي من المرحلة الأكثر بدائية للبقاء إلى التطور الأكثر تعقيداً للمؤسسات الاجتماعية التي تم تحقيقها من خلال سعي البشر الاقتصادي. وبعبارة منطقية، لا يوجد مجتمع بدون تطلعات اقتصادية ولا توجد تطلعات اقتصادية بدون بيئة مادية أو واقع، فالأخيرة هي الشرط الأكثر إبتدائي الذي يمكّن جميع المشاريع الإنتاجية والهادفة للبشرية في العالم. وهذا هو جوهر المادية الفلسفية.
الجانب المظلم للمادية
ومع ذلك، وبغض النظر عن معانيها الفلسفية، قد تتخذ المادية شكل تكوين شرير كموقف إنساني سائد. هذا النوع من المادية أكثر ارتباطاً بالميل صوب النهم عند بعض الأفراد والأمم للحصول على المزيد والمزيد من الملكية المادية على حساب حرمان الآخرين من نفس الشيء. المصطلح الأكثر شيوعاً الذي نستخدمه لهذا النوع من المادية هو الجشع، وفي معظم الحالات ، يفعل الجشع مفعوله أيضاً في المجال الاقتصادي للظروف الاجتماعية. ويتميز هذا التنوع في المادية بالتلاعب والاستغلال والقمع. لقد رأينا كيف ينعكس ذلك في تاريخ العالم حيث تقوم القوى الاستبدادية بإخضاع الدول الضعيفة وقمعها وإساءة استخدامها واستعبادها لتجريدها من حقوقها وثرواتها المادية.
وكمثال على ذلك ، ما نشهده في كيفية إستخدام دولة قوية في أمريكا الشمالية ماكنتها العسكرية القوية لغزو البلدان الغنية بالنفط والسيطرة على صناعة إنتاج البترول المزدهرة.
إن إسرائيل، وهي حليف قوي لهذه الدولة المتجبرة، تمارس نفس نمط القمع حيث أخضعت السكان الأصليين لقطعة صغيرة من الأرض تسمى فلسطين ووضعت نفسها استراتيجياً في قلب منطقة الشرق الأوسط لتتمتع بالهيمنة والتسلط وتسهيل أهداف شريكها في أمريكا الشمالية في الإشراف على مشروع اقتصادي كبير من خلال تشكيل ما يعرف بمشروع إسرائيل الكبرى. بالتزامن مع عملية إنجاز هذا المشروع وتحقيقه، رأينا أيضاً كيف أدى هذا التحالف غير المقدس لهذه القوة في أمريكا الشمالية وإسرائيل إلى إحداث الفوضى والدمار في بلدان مثل العراق وليبيا وسوريا وغيرها.
في ضوء هذا المخطط المادي العالمي، فإن الدول القوية التي تهيمن على الدول الضعيفة للسيطرة على مواردها الغنية لا تدمر المجتمعات فحسب، بل العالم بشكل عام. وهذه هي المادية المدمرة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*البروفيسور رويل ف. بيبا هو فيلسوف فلبيني مقيم في مدريد بإسبانيا. أكاديمي متقاعد (أستاذ مشارك)، درس الفلسفة والعلوم الاجتماعية خلال أكثر من خمسة عشر عاماً في جامعة ترينيتي الآسيوية، وهي جامعة أنجليكانية في الفلبين. وهو مساهم نشط في Global Research وفي Asia Pacific Research .