تثير عودة ترامب إلى السلطة مخاوفاً مشروعة لكل من الإتحاد الأوروبي والبلقان. وتدور هذه المخاوف في المقام الأول حول الديناميكيات الوطنية والتداعيات الإقتصادية، وترسيخ المواقف القومية والأزمات السياسية الداخلية بين دول البلقان.

إنه لمن قبيل التهور أن نحدد على وجه اليقين السياسة التي قد ينتهجها ترامب فيما يتعلّق بالإتحاد الأوروبي ودول البلقان، فهو معروف بأنه يتعذّر على المرء التنبّؤ بما يمكن أن يقوم به مسبقا ً وقيامه بعمليات اتخاذ القرار غير التقليدية. ومع ذلك، يمكن تحديد عدة أمور على وجه اليقين. فهو سوف يزن أولاً ما يراه في مصلحة الولايات المتحدة، وإن كان هذا لا يشير إلى أن قراره النهائي سوف يخدم بالضرورة المصلحة الوطنية النهائية لأمريكا. وسوف توجهه أيضاً بواعث مرضاته الشخصية، فهو مهووس بطبيعته بذاته ، ونرجسي يعتقد أنه مؤهل بشكل فريد ليكون رئيساً للولايات المتحدة وأنه وحده القادر على حلّ المشاكل والصراعات التي أفلتت من العديد من أسلافه. وباعتباره عمل في التطوّر العقاري، يتعامل ترامب مع القضايا السياسية وكأنها معاملات تجارية، مسترشداً بنهج محصلته صفر، حيث يتعين عليه أن يكسب على حساب خسائر نظيره.

ومع ذلك، فسوف يظل عليه أن يلتزم بالعديد من المعايير والمبادئ التي وجهت السياسة الخارجية للولايات المتحدة. ولن يتبع مجلس الشيوخ الأميركي، حيث سيتولى الجمهوريون السيطرة، بالضرورة كل أهدافه السياسية التي يرغب في تحقيقها، وخاصة عندما يُعتَقَد أنها تشكل تهديدات بالغة الأهمية لمخاوف الأمن القومي للولايات المتحدة وحلفائها والعديد من الإلتزامات الدولية.

ويؤدي ميل الإتحاد الأوروبي التاريخي إلى الرضوخ لسياسة الولايات المتحدة في المنطقة إلى تعقيد هذا الوضع. وإذا تبنت واشنطن نهجاً أقل تدخلاً، فقد يضطر القادة الأوروبيون إلى اتخاذ موقف أكثر استباقية في الحفاظ على الاستقرار الإقليمي، وهو ما قد يترجم إلى نهج أكثر توحداً تجاه أمن الإتحاد واقتصاده.

إن احتمالات تكثيف النزعة القومية وعدم الإستقرار الإقتصادي بسبب السياسات الحمائية والديناميكيات المتغيرة من شأنها أن تتطلب من القادة الأوروبيين إعادة تقييم استراتيجياتهم. ويتعين على الدول الأعضاء أن تستعد لمشهد جيوسياسي متغيّر يتطلب قدراً أعظم من الإستقلال عن الولايات المتحدة والمرونة في التعامل مع الحركة الداخلية المتزايدة نحو اليمين والتهديدات الخارجية من روسيا على وجه الخصوص.

المخاوف الأمنية:
أحد أهم المخاوف هو موقف ترامب غير المتوقع من حلف شمال الأطلسي. لقد سخر ترامب خلال فترة ولايته السابقة في كثير من الأحيان من حلفاء الناتو لعدم الوفاء بالتزاماتهم الدفاعية والإنفاقية، مما زاد من المخاوف من أنه قد يسحب الدعم الأمريكي من التحالف. من شأن مثل هذه الخطوة أن تشجع الخصوم مثل روسيا وتزعزع إستقرار بعض دول أوروبا الشرقية، مثل بولندا، وخاصة في ضوء الحرب الجارية في أوكرانيا. وعلى الرغم من أنه من غير المرجح أن ينسحب ترامب من التحالف، وخاصة لأن الديمقراطيين والجمهوريين أقروا تشريعات لمنع ذلك وسوف يعارضون أي محاولات خبيثة للقيام بذلك، إلا أن الدول الأعضاء في حلف شمال الأطلسي لا ينبغي لها أن تأخذ ذلك أمرا ً مسلما به.

وفيما يتعلق بالحرب في أوكرانيا، من المرجح أن يغيّر ترامب سياسته من خلال الدفع نحو تسوية تفاوضية، الأمر الذي من شأنه أن يثير مخاوف كبيرة بشأن التداعيات المترتبة على سيادة أوكرانيا وأمنها وسلامة أراضيها. ومن المرجح أن يمارس ترامب ضغوطا على أوكرانيا لحملها على تقديم بعض التنازلات الإقليمية من خلال خفض الدعم العسكري الأميركي لأوكرانيا بشكل كبير، وهو ما قد يشكل سابقة مثيرة للقلق أو حتى يعجل باندلاع صراع في المستقبل.

وتظل هذه الظروف الجيوسياسية متقلبة في حين تستعد إدارة ترامب وأوكرانيا للتغييرات المحتملة في الاستراتيجية والتنفيذ التي تسبق تنصيب ترامب. وفي هذا السياق قد يضطر الإتحاد الأوروبي إلى إعادة النظر في استراتيجياته الدفاعية، والتي قد تكون مستقلة إلى حد ما عن الولايات المتحدة.

التداعيات الإقتصادية على الإتحاد الأوروبي:
إن تهديد ترامب بفرض رسوم جمركية على الواردات من الصين إلى الولايات المتحدة بنسبة 20 في المائة قد يؤدي إلى اتخاذ تدابير انتقامية وتصعيد الأمر إلى حرب تجارية، وخاصة مع الصين، مما يؤدي إلى عدم الإستقرار الإقتصادي. كما أن رفع الرسوم الجمركية على السلع المستوردة من الاتحاد الأوروبي بنسبة 10 في المائة سيؤثر بشكل خطير على العلاقات الإقتصادية عبر الأطلسي ويؤثر بشكل مباشر على المجتمع الأوروبي، وخاصة في قطاعي السيارات والزراعة. بالإضافة إلى ذلك، قد تؤدي سياسة ترامب أيضًا إلى تعطيل اعتماد الاتحاد الأوروبي على المكونات الصينية. وإذا أصر على خفض واردات الإتحاد الأوروبي من الصين، فقد يؤدي ذلك إلى زيادة التكاليف مع الحد من القدرة التنافسية، وفي الوقت نفسه، زيادة التوتر بين الولايات المتحدة والإتحاد الأوروبي.

إن عودة ترامب إلى السلطة من شأنها أن تثير تحديات متعددة المستويات لكل من الولايات المتحدة ودول البلقان.

التداعيات الإقتصادية على دول البلقان:
تعتمد البلقان بشكل كبير على التجارة مع الإتحاد الأوروبي والولايات المتحدة؛ وبالتالي فإن فرض أي تعريفات جمركية سيؤثر بشكل مباشر على اقتصاداتها. وعلاوة على ذلك، فإن خطط ترامب لترحيل المهاجرين غير المسجلين، بما في ذلك العديد من دول البلقان، قد تؤدي إلى انخفاض كبير في التحويلات المالية التي يكسبها عمال دول البلقان في الولايات المتحدة والذين سيجبرون على مغادرة البلاد. ومع ذلك، ونظرا لتأكيد ترامب على العلاقات الإقتصادية، سيكون هناك أيضا تركيز متجدد على الصفقات والشراكات الإقتصادية بدلا من التصريحات الأوسع حول الديمقراطية.

القومية والإستقرار العقلاني:
يجب أن نلاحظ منذ البداية أن الموقف الأمريكي الأساسي فيما يتعلق بالبلقان لن يتغير، بغض النظر عن هوية الرئيس. وعلى الرغم من أن تشكك ترامب تجاه حلف شمال الأطلسي قد يؤثر على الوجود العسكري الأمريكي في دول البلقان، فلن تكون هناك انسحابات دراماتيكية، حتى لو رغب في ذلك، بسبب معارضة الكونجرس، فقد كان هذا الحال أمرا ً ثابتا ً عبر الإدارات الجمهورية والديمقراطية المتعددة لأن الحفاظ على الإستقرار في البلقان يظل مصلحة استراتيجية أساسية للولايات المتحدة تتجاوز الإدارات. ولا يريد ترامب على وجه الخصوص اندلاع “حريق” جديد خلال فترة رئاسته.

ومع ذلك، فإن عودته قد تدفع القادة القوميين داخل البلقان، مثل الرئيس الصربي فوتشيتش، إلى اتخاذ موقف أكثر صرامة ضد كوسوفو. ولكن تجدر الإشارة إلى أن ترامب يتعامل مع المعاملات التجارية وسيدفع نحو المقايضة. وقد يمارس المزيد من الضغوط على كوسوفو للموافقة، على سبيل المثال، على العمل على إنشاء رابطة البلديات الصربية في مقابل توقف صربيا عن حملتها لإقناع الدول بسحب اعترافها بكوسوفو ومنع كوسوفو من الإنضمام إلى المنظمات الدولية.

تواجه كوسوفو خطرا متزايدا من نفوذ روسيا بمجرد عودة ترامب إلى السلطة. ومن المرجح أن يتخذ ترامب موقفا أكثر صرامة تجاه رئيس وزراء كوسوفو ألبين كورتي. وقد يؤدي التغيير المحتمل إلى إحياء المناقشات المثيرة للجدال حول تبادل الأراضي بين صربيا وكوسوفو، وهو ما ترفض الأخيرة حتى التفكير فيه. ولهذا السبب، من الأهمية بمكان أن تظل كوسوفو يقظة، وأن تعمل بشكل وثيق مع الإتحاد الأوروبي، وأن تكون مستعدة لأي تحول في السياسة الخارجية الأميركية. ونظرا لميل ترامب إلى الإعجاب بالرجال الأقوياء، فلن يكون من المستغرب أن يسعى إلى تحالف أوثق مع رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان بشأن القضايا الإقليمية. بالإضافة إلى ذلك، قد يلغي ترامب العقوبات المفروضة على جهات فاعلة مثل ميلوراد دوديك في جمهورية صربسكا في البوسنة، وهو ما قد يؤدي إلى زعزعة استقرار المنطقة.

وأخيرا، قد يؤدي الجمع بين القومية الصربية والانتهازية الروسية إلى زعزعة الإستقرار في المنطقة. وقد تعمل العلاقات الدافئة بين ترامب وبوتن على تعزيز المصالح الصربية لإرضاء بوتن، وهو ما قد يقوض الإستقرار في البوسنة والهرسك. وقد أعرب زعماء مثل دوديك بالفعل عن أن رئاسة ترامب ستسهل طموحاتهم الانفصالية، وخاصة فيما يتعلق باستقلال جمهورية صربسكا عن البوسنة. وإذا أتيحت له فرصة تولي منصب في الإدارة، فقد يلعب ريتشارد جرينيل دورا مهما في تشكيل سياسة البلقان.

ينبغي التأكيد على أن هذه التغييرات السياسية المحتملة هي تكهنات وتستند إلى سياسة ترامب تجاه دول البلقان خلال ولايته الأولى والتصريحات التي أدلى بها مستشاروه الجدد للسياسة الخارجية. قد تختلف سياسة ترامب الفعلية اعتمادًا على عوامل مختلفة وتطورات إقليمية. علاوة على ذلك، فإن ترامب المعروف برغبته في تحقيق نتائج سريعة قد ينسحب من المنطقة إذا لم يعتبرها أولوية استراتيجية، وربما يتركها للإتحاد الأوروبي. ولكن بالنظر إلى شعاره “أميركا أولاً”، يجب أن يعلم أن الحفاظ على الزعامة العالمية للولايات المتحدة – حيث يمكنها ممارسة نفوذ كبير – يخدم مصلحة أميركا على أفضل وجه.

لقد كان الإتحاد الأوروبي يستعد لعودة ترامب المحتملة إلى السلطة، وكانت دول البلقان تفعل الشيء نفسه أيضًا. إنهم يستعدون لفترة مضطربة محتملة. يركز الإتحاد الأوروبي على المرونة الإقتصادية التي ستشمل تدابير انتقامية وتعزيز الإتفاقيات التجارية مع دول أخرى. وعلى الجانب الأمني، قرروا زيادة الإنفاق الدفاعي وتولي دور أكبر في مساعدة أوكرانيا على الدفاع عن نفسها. كما تتطلع دول البلقان إلى تعزيز الوحدة داخل المجتمع الأوروبي من خلال اتخاذ خطوات لتعزيز تكاملها مع الإتحاد الأوروبي وتطوير علاقات قوية مع مؤسساته.

تتناول الإستراتيجية الجديدة للإتحاد الأوروبي العديد من حالات الطوارئ التي قد تنشأ لضمان أن حتى أدنى انسحاب أمريكي لن يجعل المجتمع الأوروبي عرضة للخطر. ومع الأخذ في الإعتبار كل التكهنات حول ما سيفعله ترامب أو ما لن يفعله، لن يطلع يوم الحساب على المجتمع الأوروبي أثناء فترة ولايته، حيث أن الإعتماد على الذات بشكل أكبر سيساعد الإتحاد الأوروبي على الظهور بشكل أقوى ومتحد بقوة.