لو مر سرب من يمام
على الشرفة في هذا الضحى
هل تراني مثلما كنت قديما
يا زمان الصبا يا أيها الواهب
صوتا للدم النافر
معنى للكلام الخبيىء
سعدي
نبوءة الشاعر
لا ندري لماذا وافق الشاعر سعدي يوسف على أن يضيفنا نحن الثلاثة:مهدي محمد علي، أنا، ووليد الراوي
ربما كان السبب، افتراضيا- لعينه التي ترصد ولخياله الذي (يغفو على نبوآت، يصهل بالنبوءات)...مهدي فتى نحيل شفاف،بابتسامته الوديعة، وانا المشاكس دوما، ورياض ذي اللياقة والصوت الجميل ...
مرة وعن غير قصد،بمصادفة بحتة،كان الشاعر الذي يلبس كنزة صوفية خفيفة، خضراء اللون،مقطعة بخطوط عريضة على الصدر،انحنى على دفتري الذي اكتب عليه تعبيرا،وما سمي آنذاك إنشاء، كنت التقط المعرفة من خط الشاعر على اللوحة...خط من النسخ كتب به اسم الموضوع، وكنت أتجول ما بين الخط الذي يسيل أمامي بالمعلومات وخيالي الذي دخل بستان نخل، يصف ويتنقل، قال لا تسرع وانتبه إلى الترقيم، لا يمكن أن تكون السطور هكذا متيبسة مثل سكة حديد..ضحكت وعندما هم بالربت على كتفي، قلت دون استئذان، أستاذ، هل أنت قلت هذا الشعر،وتدفقت الأبيات كأني كنت انتظر هذا الوقت:
شدي على الصدر ولا ترحمي،نهدين ما مالا على العاشقين
إن الطيور البيض تهوى الذرى فما لهذا النهد يبقى سجين
ضربني على كتفي وانسحب اللون الأسمر من سحنته على الخطوط البيض العريضة في كنزته الصوف.
كان هناك صمت غريب من الطلبة الذين رفعوا رؤوسهم ينظرون بأبهة لهذا الشاعر، طال جسده وارتفعت يداه مثل طيور بيضاء.
لكن أن أسبابا أخر دعته كي يضيفنا أو انه الاختبار.
مشينا نحن الثلاثة عبر طرق البساتين صوب بيت الشاعر، إن اقصر الطرق هي طرق البساتين،تجدها قصيرة حتى وان طالت..فالنخل وأشجار خضراء وقناطر من جذوع النخل تشدك إلى أمام مثل حبل غير مرئي ..
في بيت الشاعر جلسنا واحضر بيديه النحيلتين وأصابعه الطويلة، ثلاثة فناجين من الحليب مع البسكويت، كنا ملثمين على بعض في حضرة وجدنا أنفسنا فيها،حضرة معقدة لشاعر ومدرس، فاكتفى بتغليف مجلة كانت على طاولة قريبة وتركنا نشرب الحليب مع البسكويت..ثم سألني فجأة عن القصيدة ومن أين قرأتها..قلت من ديوان صغير اشتريته من سوق الجمعة، كان مهدي يعرف ذلك أو لنقل هو الذي اختار لي هذا الديوان، قال هذا من أيام الصبا.. ثم طلب مهدي منه ان يقرا لنا شعرا، ولأول مرة اسمع شاعرا يقرا شعره مباشرة أمامي، فالتممنا على بعضنا، وكان صوته نحيلا مثل كفيه وفيه مسحة من لهجة ريفية جنوبية هادئة ..وعندما اوما لنا بالاقتراب من المكتبة، كانت الكتب بالانكليزية، صغيرة مدسوسة مثل أعناق عصافير يبرز على جبهاتها صورة لطير البطريق...ثم جلسنا وغاب عنا فترة..جاء بيده كيتارا بني اللون، بجسد خشبي على هيئة مثلث وباليد الأخرى كتابان..قال هذا الكيتار لرياض وهذا ديوان شعر لمهدي ثم ناولني مجموعة قصص لنجيب محفوظ..جلس وضحك عن أسنان بيضاء وطلب السماح له بالتدخين، وعلى أمواج الدخان البيضاء المتلوية قال نبوءته:
- مهدي ستصبح شاعرا واقرأ كثيرا
- رياض سيمنح هذا الكيتار لصوتك رنة المدينة
- أما أنت أيها المشاكس الخشن فستكون قصاصا، تكتب القصة واسرح مع طرق الكتابة وتعلم السرد.
الورقة الثانية
القبر العظيم
انا شاعر
وفوق قبري
سوف تنثر الصبايا اوراق الورد
والرجال الاس
قبل ان يذبح الليل النهار
بسيفه الحالك
"هذه أبيات لآزرا باوند..عشعشت في رأس مهدي سنينا، تسنده حين التعب، التعب المجدي، التعب الحميم"- مستلة من أوراق شجرة البيت في المنفى لمهدي محمد علي..
كان الوقت خريفا،الهواء المغبر يلطم صدورنا، نلملم قلبينا بأيدينا ونشهق باللهاث ونحن نهرول باتجاه صبخة العرب.
في مزحة تناثر لعاب فمي منها، كنت اقرأ قصيدة من الشعر العمودي، دفعها لي مهدي في ساحة المدرسة، الساحة مهرجان وعليك أن تثبت جسدك من احتكاك الأكتاف العابرة.. لغط وصراخ وأنا اقرأ أبيات القصيدة العينية القافية.. كان ينحني علي أنا القصير مثل غصن رطيب من سدرة فارعة..قلت إنني أقرا وخطك جميل واضح..ارتبك وأشار ..هنا كانت كلمة مقطوعة،فبدلا من أن تكتب يستطيع كتبت يستطع، قال انه الوزن..ضحكت وتناثر اللعاب من فمي..لملمته وقلت: لي ابن عم شاعر..أتريد أن تتعرف عليه،اهتز الغصن وانتصب.. وكم عمره، قلت مثل عمرك..قال هل هو شاعر معروف مثل سعدي، قلت لا اعرف ولكني اعرف انه يكتب الشعر وقرأ علينا قصيدة جميلة غزلية، قال أنا اعرف الكثير من الشعراء، من قصائدهم في الجرائد، قلت أتريد أن تتعرف عليه..أومأ بالإيجاب، ودخلنا صف الدراسة وهو ينظر الي بدهشة عن إخفاء هذا السر الذي اكتمه عنه؟
وكان الطريق فارغا من يوم الجمعة التي تحجب غيوم متراكضة أشعة الشمس..وعند ساحة لكرة القدم عريضة، ملحاء،كان فتية يلعبون الكرة بعكس تيار الهواء..توقفنا واسترد كل منا لهاثه وتفحصنا اللاعبين المبتسمين.
قال:لم تقل لي ما اسم هذا الشاعر؟
قلت: عبد الكريم كاصد..غرز أصابعه النحيلة في شعره المتطاير وأدار ظهره عكس هبوب الريح ثم انطلق معي صوب المحلة.
كان بيت الحاج كاصد رابضا على علوة، مسور بسياج ترتعش على سطحه أوراق شجرة التين الفزعة من هبوب الريح الخريفي، تطلق أوراقها اليابسة وتئن.كان البيت مميزا ببنائه الشبيه ببيوت المدينة..ودخلنا فضوة المساحة التي يسورها السور ثم طرقت الباب الخشبي الصلب، فالتقانا الشاعر وقد تهندم، يركز إصبعه على مفرق نظارته الطبية، لما دخلنا غرفة الشاعر تلون مصباح الغرفة بأطياف الود والضيافة..
وإثناء وجبة الشاي والغداء، كان الاثنان يحرثان في ارض معلوماتهما ويتباريان، وكانت أكداس من الكتب تخرج من المكتبة المليئة وتعود، وتنثر مجلات التقطت واحدة منها كان مكتوبا عليها مجلة الآداب كنت اعرفها واقرأها من مقتنيات أخي، وغرقت بالصفحات وقراءة القصص وهو أول ما افعل، وكانا يتحدثان عن الأوزان والشعر بلهجة أشبه بجليد يتراكم على عيني..وعند العصر، تفارقا كأنهما قد تعارفا منذ زمن وما كان وحيدا بينهما سواي.
هاجس – بصرة حلب 31/5/1996 بعد ظهر الجمعة
الورقة الثالثة
معاناة
بصرة حلب – 18/8/1996
كان مهدي وأخي علماني أبجديات حزبية أولى،الهج بها وأتناطح مع أكباش في السوق،كل شيء كان يجري بهدوء، ورغم الصخب الذي يهز الغمام فوقنا،لكننا كنا نتعلم وابسط كفي دافئة لهطول الأبجديات.
وفي تاريخ سالف، مثل ثمرة يابسة، أقشر ما استطيع واشتم ما اقدر حيث مجرى الهدوء يتحول إلى معاناة، يتحول إلى رصد ومخاوف..كنت مسؤولا حزبيا عن منطقة البصرة القديمة،والمسؤول لديه واجبات وليس لديه حقوق، فهو مثلا لا يرفض أمرا حزبيا ولا يتذرع بأي ذريعة،في هذا التاريخ السالف بالإشراف على الخلايا ومعرفة أوضاعها التنظيمية، كنت اكره هذا لأنني سأرى ( وقد رأيت)حقوقا علي أن أنفذها للرفاق ومنها التغاضي عن عدم وجود الأصدقاء عند الرفاق كبار السن وعند المثقفين الذين يبدأون بالنواح حال التكليف هذا..كنت أميل إلى الاجتماعات التثقيفية ففيها محطات جميلة ونقاشات وكتب وجرائد..
وفي جدول الإشرافات اخترت إحدى الخلايا واتفقت مع الرفيق مسؤولها على موعد.. التقينا أمام بناية المحكمة في البصرة واتجهنا صوب التحسينية، كانت البيوت متشابهة، دخلنا إحداها حيث فتح لنا الباب شخص اعرفه في التنظيم، وكانت مفاجأة كبيرة حيث هب الرجال في الغرفة الغارقة بظلمة ساكنة ليرحبوا بي ..كان احدهم الشاعر النحيل الذي ما زال ممسكا بكتاب مفتوح،وإصبعه مغروزة في دفته الورقية، كان مهدي محمد علي، بائع الأبجديات الحزبية دون ثمن وكان معه مدرس الرياضيات الذي درسنا في ثانوية البصرة، الأستاذ كاظم جميل..ارتعشت يدي وأنا أصافحهم والاجتماع حسبما اعرف تنظيمي أي ذو حواف يابسة مضغوطة بفعل الأوامر..كان الوضع جبهويا وثمة مشاكل كثيرة، خاصة أن بطون الخلايا تنتفخ يوميا بالمنتسبين.. وجلست اشرب الشاي وعيناي للأرض..سأواجه صاحب الأبجديات وصاحب الرياضيات معلمي..كان الرفيق مسؤول المحلية لا يعرف صلتي بهذين الرجلين واستمعت بعد أن فتح الرفيق بمفتاح مغلف بالانضباط الجلسة، وبقيت صامتا، كنت اعرف أسماؤهم الحزبية ولا اعرف أنهما هما..وشمل الحديث استعراضا للكسب الجماهيري والموقف من هذا المواطن الذي قدم احد الرفاق شرحا لأوضاعه كي يدخل التنظيم ورفيق آخر عن مواطنة هي أخته، وهكذا سارت عربة الجلسة بهدوء محسوب مثل الأرقام بيد محاسب يريد أن يفرغ من عمله بأسرع وقت..وسالت مهدي وكان بجانبي عن آخر ما كتبه ورأيت عنوان الكتاب وهو راقد في حضنه..كتاب عن النقد لا اذكر عنوانه ومؤلفه بالضبط، وكأنه يعرف بمقدمي، استل من الكتاب قصيدة جديدة وكان الرفيق مسؤول الخلية مهتما بترتيب جدول للأصدقاء والمتبرعين، ولما تقدمت صينية الشاي، كان الأستاذ كاظم ينظر صوبي ويتمعن بهذا الطالب الصغير آنذاك..كنت اشعر بأنني في مكان ضيق والنظرات سحبت من ذاكرتي كل التوجيهات التي حملتها والتي حملني إياها مكتب اللجنة الحزبية وشعرت بثقل المهمة وكنت أرى عربة الوقت تدرج ببطيء على سكتها، وحينما انتهى الرفيق من توجيهاته وحساباته التفت نحوي كي أتحدث..ضحكت بوجهه وقلت: أنا سعيد أن التقي بصديقي الذي لم أره منذ زمن طويل، وبأستاذي الذي كان ديمقراطيا بتعليمه الأرقام لنا، الأرقام التي كنا نحس بروحها وحركتها على الأسطر..وصمت حتى نهاية الجلسة.
وكنا نخرج من البيوت فرادى وبفترات، فاصطحبت مهدي معي وسرنا متجاورين، صامتين مثل غريبين وافترقنا بطريقين خوف الرصد والريبة.