في عام 1909، كتب الأديب مصطفى لطفي المنفلوطي مقالته الشهيرة "لا همجية في الإسلام"، مستنكرًا المجازر التي طالت المسيحيين في الدولة العثمانية، ومنها مذابح أضنة التي ذهب ضحيتها الآلاف، وبينهم كان جدي وعمي في الرابعة عشرة من عمره، يحمل في يده رقعة خبز يابسة، لا بندقية ولا حتى عصا، مجرد طفل بريء وقع ضحية للهمجية."
مرت أكثر من مئة عام على تلك الكلمات التي خطها المنفلوطي، لكن الدماء لم تجف، ولا الحناجر هدأت. من سيفو 1915، إلى مذبحة سميل 1933، مرورًا بمجزرة صوريا 1969، وصولًا إلى كنيسة النجاة في بغداد عام 2010، وها نحن اليوم، في دمشق، أمام جريمة جديدة: انتحاري يفجر نفسه في كنيسة مار إلياس، يقتل المؤمنين أثناء الصلاة، في مشهد يعيدنا إلى ظلام الذاكرة.
في الماضي، كانت الحكومات هي التي ترتكب هذه المجازر بشكل مباشر أو من خلال سياسة ممنهجة، وكانت الضحية هي شعوبنا، لا سيما الأقليات المسيحية التي وجدت نفسها هدفًا للاستهداف الرسمي.
أما اليوم، فما يسمى بـ"داعش" والتنظيمات الإرهابية الأخرى، والتي تتلقى دعمًا من جهات متعددة، قد خلقت وضعًا جديدًا، أصبحت فيه كل الأطراف مشارِكة أو متواطئة أو عاجزة عن حماية المدنيين. الإرهاب بات يطول الجميع، لكنه يستهدف بشكل خاص من يحملون هويّة مختلفة، أو يؤمنون بعقيدة غير المتطرفين، فكانت الكنائس وما حولها هدفًا دائمًا.
ما ذنب هؤلاء؟ ما جرمهم سوى أنهم ولدوا على ملة أخرى، واختاروا طريقًا في الإيمان لا يُعجب المتعصبين؟
كتب المنفلوطي:
"أيها المسلمون، إن كنتم تظنون أن الله لم يخلق المسيحيين إلا ليُذبحوا بالسيوف، وتُقصف رؤوسهم بالرماح، فأنتم لم تعرفوا دينكم، ولا فهمتم إنسانيتكم."
بعد أكثر من قرن، ما زلنا نرى من يقتل باسم الدين، ويذبح باسم الطهارة، ويكفّر باسم الله.
أي عار هذا؟
أي تفسير ديني يبرر سفك دماء أطفالٍ في أحضان أمهاتهم داخل كنيسة؟
دمشق، التي حملت اسم القديس بولس، واحتضنت أولى الكنائس، تُلطّخ اليوم بدماء من ساروا على خطاه. فأي حضارة هذه التي تُذبح فيها الطقوس الدينية بصمت المتفرجين؟
هذه ليست حوادث معزولة، بل سلسلة متصلة من القتل المنهجي، تبدأ بتحريض وتكفير، وتنتهي بأشلاء على أرض الكنيسة. من سيفو إلى النجاة، ومن النجاة إلى مار إلياس، التسلسل واضح، والصمت الدولي أقسى من الرصاص.
لقد آن الأوان أن نقولها بصوت عالٍ:
لسنا أقلية خائفة، بل جذور هذا الشرق.
لن تُمحى ذاكرتنا، حتى وإن عجز العالم عن حمايتنا.
وختامًا، أود أن أشارككم شيئًا من قلبي.
لذكريات أبي وعمّي، ولكل من سقط ضحية الهمجية، أقول:
لن ننسى، ولن نسكت، حتى يسود السلام، وتزدهر الإنسانية.