هل هناك ما يسيء الى القوى السياسيّة الحاكمة بالعراق اليوم، إن تحدّثنا عن عودة الرق كظاهرة تاريخية إعتمدت عليها الحضارة الأنسانية منذ فترات موغلة بالقدم والعالم يسمو بالإنسان الى عصر الحريّات ومنها حريّة الرأي والمعتقد والتجمع والتظاهر ..؟ أو، هل القوى السياسيّة الحاكمة بالعراق اليوم ومعهم المؤسسات الدينية وزعماء القبائل يعيشون كسادة، مقابل الملايين من العراقيين الذين يعيشون كالعبيد ..؟ هل هناك فرق بين النظرة الأوربية الغربية وبين النظرة الأسلاميّة والعربيّة حول الموقف من ظاهرة الرق اليوم، خصوصا وأن الغربيين لا يشعرون بعقدة الذنب تجاه الظاهرة، على عكس الإسلاميين الذين يبتعدون عن التطرّق لها لإفتقادهم الى أسلوب النقد لتاريخهم وعدم قدرتهم على إلغاء العبوديّة كونها مقدّسة لذكرها في القرآن الكريم بصيغ مختلفة، على الرغم من أنّ كليهما مارسا تجارة العبيد في مراحل تاريخية معيّنة؟ ففي أوربا على سبيل المثال يعتبر كل من (كارل ماركس وفريدريك أنجلس) من البارزين في دراسة ظاهرة الرق، وإعتماد الحضارة الأنسانية عليه لتجاوز المشاعية البدائية التي كانت تمتاز "بغياب الملكية الخاصّة للأرض وعدم الأنفصال بين الزراعة والصناعة والأكتفاء الذاتي إنتاجا وأستهلاكا في إطار القرية" (1)، أمّا في الشرق الإسلامي فالصمت والتبرير هما السمة الأساسية للنظر في الظاهرة، دون الخوض في دراستها والتي إن تمت فأنها لا تعتمد على مبدأ نقدها الّا في حدود ضيّقة لقدسيتها من جهة، ولأنّ الإسلام لم ينه الرق بشكل كامل لليوم من جهة ثانية.
على الرغم من أنتهاء ظاهرة الرق دوليا، فأنّ الامم المتحدّة تبنّت تاريخ الثاني من كانون الأوّل/ ديسمبر من كل عام يوما دوليا لإلغاء الرق، الّا أنّها ونتيجة لتقديرات منظمّة العمل الدولية حول زيادة العمل الجبري والزواج القسري وعمالة الأطفال تحدّثت عن مصطلح جديد وهو "الرق الحديث"، وعلى الرغم من أنّ المصطلح لم يُعرّف قانونا "إلا أنه يُستخدم مصطلحا شاملا يشمل ممارسات من مثل العمل الجبري ، و رق الديون، والزواج القسري ، والاتجار بالبشر. ويشير بشكل أساسي إلى حالات الاستغلال التي لا يمكن لأي شخص رفضها أو الفكاك منها بسبب التهديدات والعنف والإكراه والخداع و/أو إساءة استخدام السلطة" (2)
في ظلّ عدم وجود إكتفاء ذاتي إنتاجا وإستهلاكا في القرية/ العراق، وأنهيار قطّاعي الزراعة والصناعة من خلال إنهيار القطّاعات الخدمية كلّها تقريبا، مع إنهيار كامل في المنظومة الأخلاقيّة للمجتمع من خلال الزواج القسري الجاري العمل به لليوم في الريف والمدن التي ريّفتها سلطات ما بعد الإحتلال الأمريكي للبلاد، وعمالة الأطفال التي تعني تسرّب التلاميذ الصغار من المدارس الفاشلة أساسا لفساد سلك التعليم بأكمله بعد أن حولّوه الفاسدون لتجارة، وإنهيار كل ما يمت للحياة بصلة حيث يعيش العبيد في تاريخ موغل بالقدم، فإننا نرى أنّ سلطة القرية قد دفعت بمجتمعنا الى ما هو أبعد من مفهوم الرق الحديث.
لقد توسّعت النظريات الأجتماعية الحديثة في تفسير مفهوم ظاهرة الرقّ والعبودية لتشمل كلّ المُستَغلّين إقتصاديا وليس في الحالات التي يكون فيه الإنسان عبدا مملوكا فقط، ولو أخذنا العراق تحت سلطة القوى الإسلامية ومرجعياتها الدينية والعشائرية، وما يقترفونه من جرائم بحق العراق أرضا وشعبا وثروات كمثال، سنرى أنّ الجماهير التي لا تبحث عن حريّتها وكرامتها ومستقبلها من خلال التحرر من نير السادة وهم هنا المؤسسة الدينية والأحزاب والمنظمات الإسلاميّة التي تقودهم كالقطيع الى الفقر والمرض والجهل والتخلف، هم من طبقة العبيد الذين لا يميّزون بين الحق والباطل، بين الذلّ والكرامة، بين الحقيقة والسراب، بين الحياة والموت.
أنّ الأحرار لا يعتبرون رجال الدين وزعماء الأحزاب الإسلاميّة آلهة تعبد، لأنّ هذه من صفات العبيد، والأحرار يقفون بوجه اللصوص والقتلة من حكّامهم، والعبيد يخافون المواجهة. لو راجع العبيد في العراق تاريخ بلدهم منذ الإحتلال لليوم، لعرفوا أنّهم يعيشون بذلّ وجبن لا مثيل لهما في أية دولة بالعالم اليوم، فالعبيد هؤلاء يبيعون أنفسهم وعوائلهم ووطنهم لرجل دين أو سياسي إسلامي مقابل لا شيء تقريبا، لأنّ رجل الدين يوعدهم بالجنّة، والعبد الفاقد للحريّة والحياة الكريمة يستقبل هذا المخدّر بقناعة تامّة، لذا تراهم لا يريدون الفكاك من ذلّهم وتهديدات الآلة الإعلاميّة لما سيحصل لهم لو تحرّروا من عبوديتهم!! فأصبحوا بالنهاية أسرى "العنف والإكراه والخداع و/أو إساءة استخدام السلطة من قبل طبقة الأسياد الذين يمتلكون رقابهم وحياتهم".
العراق تحت حكم السادة والعبيد لن تقوم له قائمة، الّا بإنتفاضة العبيد وكسرهم لنير العبودية التي كبّلهم بها رجال الدين وساسة الأحزاب الأسلاميّة ليخرجوا من أسفل الهرم الإجتماعي الذي يعيشونه مقارنة مع الأسياد الذين يتسّيدون وينهبون كل شيء في بلد يسير نحو الموت بخطى حثيثة. أنّ العراق بحاجة الى ثورة ومحرّرين تقود حراكا إجتماعيا، يقبر حكم السادة ويقيم سلطة العدالة الأجتماعية، من خلال بناء مؤسسات بعيدة عن الطائفية والعشائرية والمناطقية والحزبيّة، دولة تحترم شعبها الذي سيكون رافعة في أن تتبوأ البلاد مكانتها الطبيعية بين بلدان المنطقة والعالم، لا دولة ينخرها الفساد حيث يبيع السادة المناصب الحكومية ليستغلّوا من خلالها طبقة العبيد. ولو كانت نسبة الأحرار أكبر من نسبة العبيد في العراق، لتحوّلت مأساة حريق الكوت وغيرها من الحرائق السابقة والتي ستحدث لا محال مستقبلا نتيجة تدوير نفس الطبقة السياسيّة الفاسدة التي تحكم البلاد بقوّة المرجعيات الدينية التي دعمت ولازالت قوى الفساد والميليشيات والقوانين التي تسنّها بما يعزّز سلطتها، الى ثورة عارمة تهدم أعمدة الفساد في المحافظات وقصور الخضراء على قاطنيها من اللصوص والقتلة وخونة العراق وشعبه.
الأمر لا يختلف في البلدان العربية والأسلاميّة عن العراق بالمرّة، فالشعوب العربية والأسلاميّة وهي تشاهد موت الاطفال جوعا في غزّة يوميا، والقتل الممنهج لعشرات آلاف الفلسطينيين ودمار بيوتهم ومستشفياتهم ومدارسهم، دون أن يمدّوا يد المساعدة لهم أو يطالبوا حكوماتهم بإتخاذ موقف إنساني على الأقل من تجويع الفلسطينيين، هم كذلك من طبقة العبيد الخانعين والجبناء.
رجال الدين وقادة الأحزاب والمنظّمات الإسلاميّة وشيوخ العشائر والقبائل والعوائل الحاكمة وزعماء العصابات والمافيات الدينية، نخّاسون في سوق كبير للرقيق إسمه قرية العراق.
(1) "حول نمط الأنتاج الآسيوي" ترجمة جورج طرابيشي، دار الطليعة، بيروت، 1978، ص 38 ، مجموعة مؤلفين.
(2) صفحة الأمم المتحدة، مادة حول اليوم الدولي لإلغاء الرق.
زكي رضا
الدنمارك
22/7/2025