انطلق الباص من كراج "علاوي الحلة" ببغداد يوم الثلاثاء الموافق 12/8/1980، وهو يعج بركابه القلقين والحالمين بالوصول الى بر الامان في العاصمة السورية (دمشق)، للخلاص من التدهور السياسي والاقتصادي واجواء التصعيد العسكري مع جميع الدول المجاورة باستثناء المملكة الاردنية الهاشمية، بحثاً عن حياة آمنة وعيش كريم، وبينهم عدد من الركاب - وانا واحد منهممن قرر الرحيل الى المنفى نهائياً هرباً من مطاردات جلاوزة الدكتاتورية الصدامية الصاعدة والمنفلتة من عقالها لتبطش بكل "الرفاق" المعارضين لاستباحة "السيد النائب" للموقع الاول في الدولة العراقية والحزب الحاكم "حزب البعث العربي الاشتراكي".. ويطيل البطش والاستبداد السياسي كل القوى الديمقراطية والوطنية والاسلامية المناهضة لنهج الحكم الدكتاتوري البعثي.

من نافذة الباص ذات الزجاج المضلل ارى اخي "باسم" يضع كلتا يديه على جسم الباص وهو يبكي بصمت، كأنه يودع تابوتاً الى مثواه الاخير. وبجانبه يقف صديقي الاقرب "صلاح فتة علي" يغطي عينيه بمنديل ابيض يبكي حرقة فراق صديقه، الذي تقاسم معه اياماً حلوة واياماً مرة لن تعود ولن تنسى

من المقعد الخلفي خاطبتني امراة مسنة وفي حظنها احد احفادها الصغار:

  • شد حيلك وليدي .. على ايش تبكي ؟ هي جم يوم وترجع لهم ان شاء الله !

لربما تصورت هي انني ذاهب بسفرة سياحية الى بلاد الشام، اقضي فيها ما تبقى من العطلة الصيفية، واعود بعدها الى مواصلة دراستي في المرحلة الثالثة (الاخيرة) باعدادية التجارة المركزية / فرع المحاسبة. وهل اعود من جديد للمعاناة من الضغوط النفسية لزمرة المنظمة الطلابية البعثية المسماة "الاتحاد الوطني لطلبة العراق" ودورها المشين في عسكرة المجتمع الطلابي وتبعيثه؟، اضافة لدورها المخزي الى جانب بقية اتحادات البعث الحاكم في التطبيل والتزمير لـ "منجزات الحزب والثورة"، التي قادتنا الى حروب خاسرة واحتلالات ظالمة وفوضى غير خلاقة !

اشاهد في زاوية بعيدة من الكراج يقف رفيقي في المنظمة السرية المعارضة للنظام الدكتاتوري البعثي. وكنت قد التقيته حسب الموعد قبل ساعة من انطلاق الباص ليسلمني "الترحيل الحزبي" الى رفاق منظمتنا في الشام.. "الترحيل" كان عبارة عن وريقة تم طيها الى اقصى مديات الطي، ومن ثم تم تغليفها بشريط لاصق، ليصبح على شكل حبة الحمص او حبة الفاصوليا. وطلب مني بتشدد ان اخبأه في جوف الحذاء ولا افتحه الا بعد وصولي الى كراج الباصات في دمشق.

انطلق الباص بنا .. وانطلقت معه الاحلام بالعيش في مدن آمنة، وحياة دراسية بلا منغصات، والعودة الى الوطن بشهادة علمية، للحصول على فرصة عمل ملائمة، وبناء حياة عائلية مستقرة في عراق يسوده الأمن والسلام والطمأنينة. ولكن تلك الاحلام تبخرت بعد شهر من رحيلي عندما اندلعت "قادسية صدام" المشؤومة، واستمرت ثمان سنوات من القتل والدمار والخراب (من 22/9/1980 – ولغاية 8/8/1988).

فجر يوم الثالث عشر من آب 1980 وصل الباص الى "كراج بغداد" في العاصمة السورية. فسارعت بعد النزول من الباص واستلام حقيبتي الى الانزواء في ركن بعيد عن الناس لافتح "الترحيل" واجد فيه عنوان صلة الوصل.

استذكر بوجع ذلك اليوم الذي مر عليه خمس واربعون عاماً منذ ان غادرت عراقنا الحبيب، واستذكر امي حين ودعتني عند باب بيتنا بالدموع ورشات الماء، املاً ان اعود اليها بسلام. ولقد عدت اليها بعد مرور ربع قرن تقريباً عندما سقط صنم الدكتاتورية البغيض. واستذكر ذلك اليوم كل عام مع اخي باسم، الذي اصر على ان نلتقط صورة لذكرى يوم الرحيل..متمنين ان يعود المهاجرون والمهجرون من شتى بلدان العالم الى ديارهم آمنين سالمين!