بروكسل

مع تواصل الحرب بين روسيا وأوكرانيا، والانتصارات الروسية على مختلف محاور القتال، تتسم سياسة حلف الناتو مع روسيا بالتوتر والتصعيد المستمر، فهناك المخاوف من المزيد من التصعيد العسكري، فروسيا اعتبرت دائما أنشطة الناتو في أوكرانيا وبحر البلطيق تهديدًا لأمنها القومي. في الآونة الأخيرة، لجأ الطرفان، روسيا والناتو، لمزيد من المناورات العسكرية لاستعراض القوة، ولإرهاب بعضهما البعض، أضيف لها ما يدور حول الانتهاك الروسي للمجال الجوي لبعض من دول حلف الناتو، اعتبره بعض المراقبين اختبارا روسيا لقدرات انظمة الإنذار المبكر لدول الحلف وكفاءة مراقبة الحركة الجوية وأيضا مديات التنسيق فيما بينها.

فهل ستندلع المواجهة العسكرية بين روسيا والحلف؟ لمن ستكون الغلبة؟ وما هي النتائج المترتبة على ذلك؟

البعض يعتبر المواجهة قائمة فعليا، على الأراضي الأوكرانية، مذكرا بما يقدمه حلف الناتو بسخاء من الدعم الاستخباراتي الهائل، مع كميات العتاد والمعدات العسكرية، القروض المالية، الخبراء العسكريين والافراد المتطوعين، على طول خطوط الجبهة الأوكرانية وغير ذلك. والبعض الآخر من المراقبين يشير إلى استبعاد احتمال المواجهة الواسعة والمباشرة مع حلف الناتو، خصوصا بعد التعديلات التي أجرتها روسيا على عقيدتها النووية مما رفع احتمالية تحول أي نزاع عسكري واسع بين روسيا وحلف الناتو إلى مواجهة نووية، وهذا لا تريده أدارة دونالد ترامب، رغم تقلباته ومزاجيته السياسية. وفي البال كذلك تصريحات مسؤولين روس كبار بنفي خطط روسيا لمهاجمة دول الناتو، رغم انهم لا يكفون من التحذير من النتائج الكارثية للتصعيد واستعداد روسيا للرد.

ومن جانب آخر تتصاعد صيحات تحذير غربية من مخطط صيني ــ روسي يهدف إلى تقسيم وتصفية حلف الناتو وإنشاء مجموعة دول ضعيفة داخل الاتحاد الأوربي، من شأنها أضعاف الكتلة بأكملها من الدخول في حرب اقتصادية واسعة مع الصين والتحذير من تزايد دور (منظمة شنغهاي للتعاون) خصوصا بعد مؤتمرها الأخير عام 2025، والمخاوف من تحولها إلى حلف عسكري، أيضا لم تعدم الأصوات التي تعيد التذكير بالمخاوف من عودة الاتحاد السوفياتي بشكل جديد ارتباطا بتصريح فلاديمير بوتين الذي اعتبر (انهيار الاتحاد السوفياتي أكبر كارثة جيوسياسية في القرن العشرين).

في الولايات المتحدة الامريكية، منذ أيام إدارة الرئيس جو بايدن، لم تخف بعض الأصوات، من رغبتها في رؤية هزيمة روسيا، سواء من وكالة المخابرات المركزية الامريكية، أو ما يعرف بالدولة العميقة وحتى سياسيين بارزين ينتمون إلى المحافظين الجدد، فهم يعتقدون أن إطالة زمن الحرب والاستنزاف وبالتالي الهزيمة ستؤدي إلى تقسيمها إلى دويلات على غرار يوغسلافيا، حيث كان لحلف الناتو دور حاسم في إنهاء الحرب وتفكيك يوغسلافيا، عندما أرسل ونشر عام 1995 قوات حفظ السلام، ثم قاد حملات قصف جوي كثيفة مهدت الطريق لاتفاقات السلام، بما في ذلك اتفاق دايتون، الذي قاد في النهاية إلى استقلال جمهوريات يوغوسلافيا السابقة. وبالتالي، فأن التقسيم، سينهي كابوس روسيا الاتحادية المقلق للولايات المتحدة الامريكية ودول حلف الناتو، خاصة جيرانها من الدول الصغيرة، التي طالما عاشت مع واقع خضوعها لسياسة (الجار الكبير)، ورسمها سياستها الخارجية والداخلية، وفقا لرضا الجار النووي، والتي يعتبرها كثيرين نوعا من الهيمنة.

أغلب المعاهد والمراكز البحثية التي تدرس الاستراتيجيات والسياسات الروسية، مثلا مؤسسة ماكنزي الاستشارية، تقدم تحليلات حول المخاطر المحتملة لتقسيم روسيا أو تفككها، وتتركز دراستها حول مجالات الطاقة والمخاطر الجيوسياسية وترىأ التقسيم سينشأ سلسلة حروب إقليمية لا تنتهي تهدد السلام العالمي وبالتالي تأثيرها الواسع على اقتصاديات العالم، ونشاط الشركات والأسواق، خصوصا في مجال موارد الطاقة.

المتحدثون عن الدلائل التي تشير إلى انعدام آفق المضي بتحقيق حلم تقسيم روسيا، يشيرون إلى الانقسام داخل الناتو وعدم وجود إرادة واحدة، مشيرين إلى تصارع المواقف من استخدام الأسلحة الغربية ضد أهداف داخل روسيا.

ولابد من الإشارة إلى أنه بعد الحرب العالمية الثانية، وتحت قيادة جوزيف ستالين، توسعت الحدود السوفياتية بشكل كبير، وشكلت تحولاً جيوسياسياً هاماً خصوصا في أوروبا الشرقية، وضمت أراضي من دول مجاورة، شملت أجزاء من اليابان وبولندا وألمانيا وفنلندا ودول البلطيق، وعلى الرغم من استقلال دول البلطيق وتوحيد المانيا، بعد تفكك الاتحاد السوفياتي، إلا أن ثمة أراض لا تزال تحت السيطرة الروسية، فمثلا تعتبر اليابان أن جزر الكوريل الأربع، أرضا يابانية محتلة من قبل روسيا، بينما تؤكد الخارجية الروسية أن هذه الجزر هي جزء من النظام الدولي لما بعد الحرب، المعترف به من الأمم المتحدة، وأن (السيادة الروسية على هذه الجزر لا جدال فيها). وفي فنلندا التي وفقا لمعاهدة موسكو (12 اذار 1940)، تنازلت عن كامل منطقة كاريليا الفنلندية، بما يشكل حوالي 10 بالمائة من أراضيها، تبرز رغبات قوى سياسية، خاصة من اليمين القومي، تذكر بهذا الملف. هكذا، نجد أن ثمة دول وقوى سياسية، خصوصا في بعض الدول المجاورة لروسيا، الاعضاء في حلف الناتو، يهمها حدوث التقسيم، فعلى الأقل يتحقق حلم استعادة الأراضي التي ما تزال تحت السيطرة الروسية، ففي فنلندا ورغم انه لم يجرؤ أي حزب سياسي فنلندي من الأحزاب التقليدية الكبيرة عن الإعلان عن المطالبة باستعادة الأراضي الفنلندية من روسيا، لكن بعض الجماعات القومية الصغيرة، تواصل نشاطها وتتصاعد أصواتها المطالبة بذلك، خالقة رأي عام يستثمر الشعور القومي المتصاعد والاستقواء الحاصل بحلف الناتو.