بودي الإشارة إلى أن هذه المادة ستتضمن حلقات أخرى تحت العنوان الرئيسي في أعلاه وعناوين فرعية لكل حلقة
أولا- مقدمة لابد منها
ليس عيبًا أن يتعرض أي حزب سياسي إلى كبوات وأخطاء وهزائم وأزمات في ظل ظروف ملتبسة تحيط به من كل جانب؛ إنما العيب يكمن في تجنّب الإقدام على مراجعة شاملة لتقويم أدائه، وتجديد أدوات عمله التنظيمية، وتطوير خطابه السياسي، والاكتفاء بتبرير الهزائم بعقلية متخشبة لا تقدّر حجم الضرر الناجم عن التمسك بالأدوات القديمة والعجز عن التغيير والتجديد في قضايا الشعب والوطن. مثل هذا النهج لا يساعد الحزب على النهوض مجددًا لأداء رسالته والوصول إلى بر الأمان. وهنا لا بد من التأكيد أن حزبنا الشيوعي العراقي ليس استثناءً، بل هو الأكثر تعرضًا للهزائم المتكررة، وأصبح يعاني من أزمات مركبة ومتلاحقة منذ سقوط النظام الدكتاتوري وحتى اليوم. ومع ذلك، ما ميّزه دومًا هو قدرته على المواصلة وعدم مغادرة الساحة السياسية عبر مراجعة أدائه وتجديد أدواته في اللحظات الحرجة. لكن السؤال الجوهري يبقى: هل كان هذا الاندفاع بحجم الأضرار الناجمة عن كل هزيمة أو أزمة؟ وهل خضع كل ذلك، خصوصًا القضايا الحساسة، لتقويم حزبي سليم؟ من وجهة نظري، لم يحدث ذلك قط. إذ إن كل تقييم أجراه الحزب في فترات معينة بشأن مواقف سياسية أو تنظيمية جوهرية لم يكن عميقًا يلامس جذور الأزمة، إما لافتقاره إلى أدوات تشخيص دقيقة، أو لغياب القناعة التامة بوجود أزمة حقيقية. وعليه، جاءت المعالجات ناقصة أو موسمية، عاجزة عن تأهيل الحزب لمهامه في الدفاع عن قضايا الشعب والوطن في أشد الأوقات حاجة إليه، أو جعله طرفًا فاعلًا في الصراع السياسي داخل البلد.
من المعروف أن دعوات التغيير والتجديد في الحزب انطلقت مبكرًا، ليس فقط بعد سقوط النظام الدكتاتوري وعودته لممارسة العمل العلني، بل قبل هذا الوقت بسنوات كثيرة. ورغم أن الموقف المبدئي للحزب كان يستوعب هذا الحرص وينسجم مع ما أُشير إليه من مواطن خلل في هذه المرحلة النضالية، إلا أنه عمليًا لم يتخذ إجراءات توقف الانحدار المتواصل، ولم يجرؤ على اتخاذ قرارات حاسمة تحدد الخندق الصحيح للانطلاق منه. بل ترك الأمر بانتظار متغيرات معينة أو أن تستجيب قوى المحاصصة المهيمنة على السلطة لمتطلبات الدولة المدنية وتحقيق العدالة الاجتماعية، وأن تتحول من قوى فاسدة مارقة إلى قوى أو أداة إصلاحية. كما افترض أن تحولات ما بعد سقوط النظام وآثاره الكارثية لن تسمح للشعب العراقي بقبول دكتاتورية جديدة مهما كان انحدارها، وأنه لن يقف متفرجًا أمام نهج المحاصصة وممارسات القوى المتنفذة، لأنه بعد سقوط نظام القمع والدم تحرر من الخوف، وأصبح يتطلع إلى دولة المواطنة والخدمات والرفاه الاجتماعي. غير أن هذا التصور أغفل حجم التحولات العميقة في بنية المجتمع العراقي، تاركًا إياه مادة خامة استغلتها أحزاب المحاصصة الطائفية والإثنية.
لقد اخترقت بعض الأصوات الشيوعية المخلصة والحريصة على مستقبل الحزب الجدران التنظيمية في أكثر من محفل ومناسبة مصيرية، لكن أصوات دعاة تجديد أو تغيير أساليبنا النضالية عبر القنوات التنظيمية ظلت أيضًا مرتفعة، حرصا على دور الحزب الطليعي. سواء بقيت هذه الدعوات محبوسة بين جدران التنظيم أو خرجت إلى الفضاء العام، فإنها قد وضعت اليد على جوهر الأخطاء ومواقع الخلل في أدائنا السياسي والجماهيري والتنظيمي والفكري، التي كان لها الدور الأبرز في إيصال الحزب إلى صفر مقعد في البرلمان في الدورة الأخيرة. وهذا في الواقع لا يعني فقط فقدان القدرة على الحفاظ على منظماته واستمرارية نشاطها ناهيك عن جماهيرية الحزب، بل أيضًا العجز عن وقف التدهور المستمر في مختلف مجالات النشاط الحزبي، وإهمال معالجة الأزمة التي تفاقمت بشكل خطير. من وجهة نظري، إن وضعًا كهذا يحتم علينا نحن الشيوعيين تشخيص تلك الأخطاء الآن، إذ لم يعد هناك متسع من الوقت للبحث عن تبريرات لإخفاقاتنا المتكررة، وهكذا لنتائج الانتخابات الأخيرة، التي كانت متوقعة سلفًا. فقد حذّر عدد كبير من الرفاق والمؤازرين وجماهير حزبنا من المشاركة فيها، باعتبارها مكيدة لإسقاط القوى المدنية، وفي مقدمتها حزبنا الشيوعي، في وحل أزمة لم نتعافَ بعد من مضاعفاتها السابقة، سواء نتائج انتخابات مجالس المحافظات أو ما قبلها من تراجعات وتدهور في مكانة الحزب. حتى إن قراءة الحزب للعملية الانتخابية وموقفه الرسمي منها شخص بوضوح مكامن الخطر، وفي مقدمتها التحالف الثلاثي بين المال والسلطة والسلاح، المغطى بأيديولوجيا الدين والطائفة والعرق والعشيرة، فضلا عن قوانين الانتخابات والأحزاب وحجم المقاطعة المتوقع وغيرها. ومع ذلك، لم ينأ الحزب بنفسه عن دخول المعترك الانتخابي، مبررًا ذلك باعتبارات قد تكون صالحة في الدول الديمقراطية العريقة، مثل أهمية خوض النضال البرلماني. ووجود اعتقاد بإمكانية اختراق هذا الجدار الصلب ولو بشكل بسيط كما حدث سابقًا، دون الالتفات إلى التشخيصات التي كنا نعيها حول حجم المصائد المنصوبة في العملية الانتخابية، أو إدراك أن الهدف منها في العراق هو سباق على المال والنفوذ والسلطة، وليس تعزيز الديمقراطية أو خدمة الشعب.
لذلك، أرى أنه من الصحيح أن نقول لجماهير حزبنا وقاعدته التنظيمية ومنظماته ومؤازريه: لقد حان وقت المراجعة النقدية الجريئة لأدائنا في مختلف ميادين النشاط الحزبي، وجميعكم مدعوون للمشاركة الفاعلة والحريصة في ذلك، ونقول لأنفسنا ولهم جميعا هذه أخطاءنا، هذه أزمتنا، وهذه أسبابها، وهذه هي المعالجات والدروس التي استخلصناها للاستفادة منها في نضالنا اللاحق.
وأشيد هنا بموقف الرفيق سالم الياسري حين قال: "سنراجع أداءنا، هذا التزام وليس شعار. لذلك نجمع كل ما تكتبه النخب والأصدقاء من نقد وتصويب، ليكون أمامنا ونحن نعيد ترتيب صفوفنا ونقوم تجربتنا. سندقق التحالفات، وننظر في آليات العمل التنظيمي، ونطور الخطاب السياسي.. وغيرها."
إن قضيتنا لم تنتهِ بظهور نتائج الانتخابات ، بل إنها لا تزال في بدايتها. فبلدنا يرزح تحت نظام سياسي متخلف، عماده نهج المحاصصة الطائفية والعرقية المقيتة، في ظل دولة ضعيفة ينخرها الفساد وسرقة المال العام، وتتحكم فيها الميليشيات والسلاح المنفلت، ومنقوصة السيادة تتدخل في شؤونها الداخلية عدة دول بشكل فاضح. وهذا الواقع بحد ذاته يستدعي وجود حزب شيوعي متعافٍ، قادر على مواجهة التحديات والاضطلاع بدوره التاريخي