أقام الحزب الشيوعي العراقي، صباح السبت الماضي في بغداد، حفل تكريم للشاعر الكبير، ابن مدينة الحلة، موفق محمد، تقديرا لمنجزه الإبداعي وتجربته الشعرية الثرة.
حضر الحفل الذي احتضنته قاعة منتدى "بيتنا الثقافي" في ساحة الأندلس، نائب سكرتير اللجنة المركزية للحزب الرفيق مفيد الجزائري، وعضو المكتب السياسي الرفيق عزت أبو التمن، والعديد من قادة الحزب، إلى جانب حشد كبير من المثقفين والأدباء ومحبي الشعر.
الباحث د. أحمد مهدي الزبيدي، أدار الحفل وافتتحه بكلمة قصيرة خاطب فيها الشاعر المكرّم بالقول: "موفق محمد.. أيها القيظ اللهاب.. مرحى بك في بيتنا الثقافي، البيت الذي تستريح فيه الثقافة أكثر من أي مكان آخر.."
بعد ذلك ألقى عضو اللجنة المركزية للحزب، الرفيق رضا الظاهر، كلمة في المناسبة باسم اللجنة (ننشر نصها في أدناه(.
وكانت الكلمة الثانية باسم الاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق، ألقاها نائب الأمين العام للاتحاد، الناقد علي الفواز، وقال فيها إن "موفق محمد الشاعر والصوت الذي يصدح حزنا ساخرا لكشف عيوب المتسلطين على جموع الفقراء، انه شاعر ذو رؤية شعرية خاصة به.. انه شاعر القلق والغوص في الأنفاق المظلمة.. صاحب الوعي القلق الذي يلازم الحقيقة في مقاربات فنية".
وتخللت الحفل مداخلات وشهادات عن تجربة الشاعر موفق محمد الشعرية، قدمها عدد من النقاد والأكاديميين المتخصصين في الأدب.
وكانت المداخلة الأولى للناقد فاضل ثامر، الذي أكد أن موفق محمد من الشعراء القلائل الذين يمتلكون القدرة على توظيف السخرية في الشعر، مضيفا إلى توكيده: "أستطيع القول إن موفق محمد أحد المدارس الشعرية في العراق، وهو ينطلق من الكوميديا العراقية السوداء".
المداخلة الثانية كانت للناقد د. مالك المطلبي، الذي أشار إلى أن الشاعر المكرّم جلب انتباه الآخرين بانفجاراته الشعرية "لأنه يذهب إلى المجاز من أقصى اللحظات التي ينفعل فيها".
فيما قال الناقد نجاح كبة في مداخلة له، إن موفق شاعر ناجح، وانه يجمع في كتابة الشعر بين القصيدة العمودية والنثر، مضيفا أن شاعر الحلة استطاع إشغال الآخرين بجمله الشعرية الساخرة والحزينة.
وألقى الشاعر د. عارف الساعدي كلمة بحق الشاعر المكرّم، قال فيها عنه "انه يكسر قاعدة الشعراء في موقفهم من مدنهم، بالتصاقه الحاد بمدينته وبتفاصيلها، وبقصائده التي لا تخلو من الحلة، مغنيا لها ومتغنيا بها وبسحرها وبساطتها، ومهدهدا لتعبها، وملتقطا شيبها من لحيتها.."
وكانت للناقد أحمد الناجي مداخلة ذكر فيها أن موفق محمد شاعر له منعطفات متمايزة في تجربته الشعرية، التي انطلقت ابان منتصف عقد الستينيات، بادئا اشتغالاته باللهجة المحلية، ثم نشر أولى قصائده الفصيحة عام 1968 في مجلة "الفنون المعاصرة"، التي كان يصدرها الناقد مؤيد البصام مع الشاعر سركون بولص.
آخر المتحدثين في الحفل كان الكاتب ماهر أحمد، الذي أشار إلى أن "موفق محمد هو الشاعر الأكثر كرها للشهرة والأضواء.. انه ملك الضيم. منذ عرفناه وجدناه لا يحب الحكومات، وهو الشاهد الحي على جرائم الطغاة. لقد حاولوا أن يجردوه من كل شيء، من العمل والشعر ومن أعز مخلوق لديه، لكنه كأي عراقي أبى إلا أن يؤرخ كل مخازيهم وبطولاتهم الدونكيشوتية".
بعدها اعتلى الشاعر المكرّم المنصة ليعبر عن شعوره في حفل التكريم بالقول "انها لحظات لا يتحملها إنسان (صاحي) لأني أشعر وكأني جالس فوق فوهة بركان من المحبة والنقاء".
ثم قرأ باقة من قصائده التي ألهبت حماس الحاضرين وتصفيقهم.
وفي الختام قدم الرفيق عزت أبو التمن باقة ورد إلى الشاعر الكبير موفق محمد، فيما قدم له الرفيق مفيد الجزائري لوح إبداع باسم الحزب.
موفق محمد .. بك نحتفي ونفتخر
اليوم نلتقي، مجدداً، في بيت الحزب الشيوعي العراقي المتواضع، في حفلنا التكريمي الذي تقيمه اللجنة المركزية لحزبنا احتفاءً بالمبدع الشاعر موفق محمد ..
ومن بليغ الدلالة أن يأتي هذا الاحتفال بشاعر العراق الكبير في عام الذكرى الخامسة والثمانين لتأسيس الحزب، الذي أنشد له موفق محمد كل حين، وكان آخر انشاد ما قدمه من اسهامة شعرية مميزة في احتفال الذكرى الخامسة والثمانين لميلاد الحزب.
اليوم نحتفي بتمرد الشاعر، وسخريته المريرة، وغضبه الثوري، وصوره المضيئة، ومثله الجمالية الرفيعة، وسيرة حياته الملهمة.
على نهر الحلة يمتد تاريخ من العنفوان يتجلى، من بين مجازات أخرى، في قول موفق محمد: "لم أكن شاعراً في يوم ما .. أنا راوٍ لشاعرة اسمها الحلة"!
ولم يغادر موفق محمد منزله الأول، فقد ظلت الحلة، حتى في ظلامها الموجع، منيرة في روحه، تمنحه الالهام والاحتجاج والتحدي، وترشده وترشدنا نحو ذلك الحلم الذي رافق الشاعر منذ ما يقرب من خمسة عقود، يوم أبدع قصيدته (الكوميدياالعراقية)، وهي سيرة البلاد، ليمتد طريق رحب، سار فيه على جسور من أشواك، فيبلغ بنا نصب الحرية، حيث (لا حرية تحت نصب الحرية).
هذا الشاعر، الذي ظل على الدوام يحمل بذور الشك، وما اتكأ يوماً على أرائك اليقين، ظل يرتوي من ينابيع الاطاحة بالسائد، وهو يقاوم وحشية المؤبِّدين للواقع المرير .. يحمل على كتفيه توابيت ملايين العراقيين من ضحايا الحروب والاستبداد، وهو يمضي مع الرايات السود والنساء النائحات على أحبتهن ..
ولكن نهر الحلة كان، ومايزال، يجري وئيداً لأنه يعلم أن موفّقاً يريد أن يصدح بمرثاته لزمان الخراب والانحطاط، ويطلق نشيده الذي يصيب سدنة الراهن بالهلع، ويقول قصيدته التي توجعنا، وتبصّرنا، وتمنحنا الأمل.
هذا الهجّاء، الذي صار، في سنوات الحصار، بائعاً للشاي على رصيف في المدينة التي ما ارتوى الا من نبعها، كانت قصائده تستنسخ مثل منشورات سرية، وتتنقل من يد الى أخرى، مضيئة عذابات الناس، واليأس المقيم، والرجاء الذي يومض من بعيد ..
وفي تلك القصائد، وفي كل ما كتب، كانت حدة وشفافية رباعيات الوتر الشعري تمتزج مع حزن الموال العراقي، مستثمرة التراث، وموظِّفة الحسي واليومي والمحلي، وعابرة، في القصيدة ذاتها، من التفعيلة الى النثر، ومازجة بين الفصحى والعامية، في ايقاع كان نسيج موفق محمد، الذي باتت قصيدته تحطم أسوار السجون والغرف المغلقة لتحلق في الفضاء، واليها تتطلع أنظار أفواج المفجوعين، والحالمين بتغيير العراق ..
موفق محمد .. أيها الشاعر الذي ولد على بعد موجتين من نهر الحلة .. معنا تسير في درب الآلام .. بك نحتفي ونفتخر .. ونعلم أننا، بأسئلتك الحارقة، ومجازات شعرك المضيئة، وأمثولتك الملهمة، نمضي الى حيث يرشدنا عذب فراتك الى ضفاف أمل اسمه العراق الذي نريد !