مناحاةٌ لوطنٍ في الذاكرةْ
لم تكنْ عاصفةً رمداءَ
بلْ هبةً من حنينْ
تشطُّ في تلابيبِ وجعيْ
ونهمِ الرغباتِ
رهنتُ هذا المدى
عندَ عتباتِها
لتعيدَ ولادتي طفلاً لا يعرفُ
مآلاً لجسدهِ الغضِ
وماذا سيقبضُ في راحتيهِ
من متاعٍ لأيامهِ القادمةْ
كان يحصيْ المسراتِ ويعتليها نخلةً سامقةً
يشتهي رُطبِها دونَ أنْ يدنو من فسائِلِها الغضةِ
يمددُ جسدَهُ المتعبَ عندَ ظلالِها
ويرددُ ما ترسّبَ في ذاكرتِهِ من تهاليلِ امِهِ
في مهدِهِ الموشّى بالتمائمِ والمزنّرِ بالأدعيةْ
(دللّول يا الولدْ يا أبني دلّلول*** عدوكْ ذِليلْ وساكن الجول)
نعم...
ظل عدوهُ ساكنَ القفار الرمضاءْ
وحين غادرتني العتماتُ ولدائنُ الصبيِ المدللِ
اشعلتُ مباخري في حضرتِها
كي لا تبرحُ عني وانا المشدودُ بها
وروحي تعشقُ وشمَ جيدِها
رهنتُ كلَ شيءٍ لتروضَ عمريَ الكسيحَ
على ضفافِها/ أنينِها/ دموعِها/ ازقتِها/ حاراتِها/ وناسِها الطيبينْ
وما تنكّرتُ يوماً لرذاذِها النديْ
عادتْ كما النيازكَ الهابطةَ من قبةِ السماءِ البعيدةْ
لترسو مشتتةً على رؤوسِ صحبيْ المرصوفينَ
في اقبيةِ الموتِ
حين تركتهمْ للسيافِ ومقاصلِ الجلادِ
وقارعةِ النسيانْ
بابليينَ وسومريينَ واكديينَ واشوريينَ وكرداً وعرباً اقحاحاً
ومندائيينَ وإزيديينَ وشبكاً ومسلمينَ وسواهمْ
طمرتهمْ جرافاتُ الحقدِ
فأينعتْ أجسادُهمْ بذوراً وفسائلَ وسيسباناتٍ وافواهاً فاغرةً
وهم ينشدونْ:
(بلاديْ وان جارتْ عليّ عزيزةٌ*** وأهليْ وان ضنّوا عليّ كرامُ)
قد ينعتوننيْ بالوثنيِّ أو السومريِ المغمورِ أو البابليِ المشدودِ بأسدهِ المبهورِ الرابضِ ببأسِهِ على دكةِ الانتصارْ؟ أو ذلك المتهالكَ جسداً لكن روحيْ تخضرُّ كلما اشتعلتْ في تلافيفِ رأسيْ حكمةَ النملِ وذكرى عصايَ التي تركتُها لأبي المحدودبِ الظهرِ وأمي التي كانت تعشقُ عكازتي لتنامَ قريرةَ العينْ
احرَقوا الحقولَ والعقولَ والفلولَ الهاربةَ خوفاً وفزعاً ونثروا الرمادَ
فارتشفتُه مياهُ النهرينِ ولم ينلْ الناكثونَ لعهدهمْ غيرَ لعناتِ الربِ وسخامَ الزمنِ الذي غطّى وجوهَهمْ ومضوا حاسريْ الرؤوسَ الفارغةَ الا من حقدِ الدبابيرِ ولسعاتِ العقاربِ الضالةْ.
لأضلَ من ذكرى رمادِهمْ ارتشفُ الخمرَ والخبزَ والأسئلةْ
وألثمُ ثغرها بشهوةِ الكُمثرى
وهي تمرُ ميّاسةً بأعيادِها
كلما عنّت عليّ نواميسُها
وحناؤها تشعُ طراوةً
وأنا أسمعُ تمتماتِها
وأرددُ غناءَها
فتمررُ اناملَها الغضةَ
على جسديْ الممددِ بين صخرةٍ مباركةٍ
فجّر ماءَها نبيٌ وليدٌ
وأصصِ الاقحوانِ
تستنشقُ رائحةَ ترابِها المندوفِ بدميْ
نتوسدُ الذكرى البليلةَ لبغدادَ
فيأخذُنا سحرُ الحكاياتِ القديمةِ
واقدامُنا لم تزلْ منقوعةً بماءٍ فراتيٍ
ممسكينَ بشوقِ الندماءِ نحنُّ لمتاريسِنا
ودجلةُ هي من تطفئُ حرائقَنا الناشبةْ.