كانت الريح حزينة، والوادي في قلب الثلج، والساعة عند منتصف الليل، وكريم يرتجف ويتساءل بصوت عالٍ: ((ايّةُ اصابع كتبت هذه الفصول!؟.. ايّ عقل صوّر هذه المشاهد!؟.. وايّ خيال استدرجنا لكي نؤدي الادوار الهزيلة!؟))، وكنتُ اسمعه واتابعه بنظراتي ووو........
كلُّ شيءٍ باقٍ في مكانه، الحجر والعدم والهواجس!.. جبل فوق جبل.. وادٍ في بطن وادي.. سورٌ وراءهُ سور.. شبكة من الالغاز تتداخل بطريقة فريدة!.. سبل الوصول الى الله، الى البراءة، الى الانتصارات!، تضيق وتتلاشى، شيءٌ ما، شبحٌ ما، عاصفة من التهيؤات تهبط كسيل على منحدر!.
((آه يا امي.. يا نجية.. يا نوركِ الباهر.. اما زلتِ مواظبة على الدعاء وحرق البخور من اجلي!؟)).. كان كريم هزيل الجسد، قصير القامة، واسع العينين، فكّهُ يتدلى قليلا، ويشكو من الضلال، واليباس، وألم المفاصل!، لكنّ روحه مازالت في جسده، ولا يجد حرجا في ان يتدفق علنا!.
((لن اعود يا نجية، فالنفق طويل، وليلهُ لا ينتهي، ومؤخرة (البغل) أنستني الطيور وموسيقى الحياة!، ورأسي بات لا يدرك اسمي..... اعتدتُ ان انام في (الكرتان) بدل السرير، ووصفة الطبيب (عدس، حمّص، فاصوليا)!، جعلت جسدي خارج قانون الجاذبية، وانفي لا يشمّ سوى رائحة بول قائد المعسكر ....!)).
ضحك الرفاق.. تعالت سخريتهم!.. يتظاهرون، بأنّهم في الزمن المثالي!.. يتباهون، بأنهم بلا ماضٍ، ولا عطور، ولا طفل يستيقظ في داخلهم!.. يدّعون، انّ لا شيء علّمهم الندم، وانهم غادروا هيجان الغرائز!، لكنّ كريم يرفع القناع، فقدرته على صناعة المفارقة تغويهم بأن تكون لهم احلاما ورغبات!.
((انا مفقود يا امي، انا مخطوف يا نجية، انا مستعبد، كل الاستعباد الذي لا يخطر ببالك!، لا املكُ، حتى تعابير وجهي!، ملفوفٌ بالثلج، الثلج، منصة مسرحنا، وكواليسه المبهمة .....)).
في داخل الغرفة الضائعة في الوادي، كان الصمت خيارنا، وكان لكلّ منّا صمته الخاص الذي يحطم به رموزه المقدسة!، ويبحث بطريقته اللامنطقية عن نهاية سعيدة للفلم الذي طال امده، ما عدا كريم، فمخيلته تأبى ان لا تنطق، وخاصة عندما يكون الكلام عن الحياة التي تقع في الجهة الاخرى من الجبل!.
يتدثر بمعطفه، يحتضن العفن والبراغيث وجمر المدفأة!، لسانه طويل، لا يتلعثم، وذاكرته تمرّنت على حفظ الحكايات، فكانت الجمل تنبثق منها مؤطرة بالرسوم المستوحاة من الطبيعة الهادئة البسيطة والبعيدة عن المظاهر!.
كان مصرا على استذكار الذين ماعادوا هنا، حتى لو كان ذلك يضجر البعض من رفاقه!، فهذه الذكريات، هي الباب الخلفي الذي يهرب منه من جحيم الحياة الراكدة، سيما وهو لايسرد احداث رواية كلاسيكية!، انما يروي قصة رفيقه سمير الذي مات في حرب الجبال، والذي كلما تذكره يترك الدموع تسيل على خديه واحيانا ينتحب مثل ولد صغير، سمير الذي رافقه لأكثر من خمس وعشرين عام في ريف الجنوب، كان موته خرافة كتلك الخرافة التي كانت مستعدة للهبوط على قريتهم في اية ساعة تشاء!!...