(الفصل الرابع)

في نوبة من نوبات تخلي السلطة عن بؤساء المدن والاستخفاف بمصائرهم، وإزالة اكواخهم من أحزمة الفقر المتشبثة بالمدن بذريعة (التمدن!)، ارتحلت عائلة "عروة" شمالاً من (مدينة الماء والسماء) بحثاً عن مأوى ولقمة عيش لها عشية موسم الحصاد في البقاع الزراعية على ضفاف دجلة جنوب العاصمة، التي تحتضن أكواخ المعدمين المحيطة بـ(إيوان كسرى) الذي بناه الملك الساساني (أنو شروان) عام خمسين وخمسمئة ميلادية...في تلك البقعة النائية عن (المدنية!)، رَسَتْ بهم موجة الخوف من الانقراض جوعاً، (أملاً!) في الخلاص من ملاحقة الفقر لهم!

قبل حلول شهر نيسان كانت العوائل القادمة من قرى ومدن مختلفة بعيدة، تقيم أكواخها العشوائية الهزيلة متلاصقة مع بعضها البعض، وتلتئم في جماعات يوحدها صرير البؤس في النفوس والأمل بموسم حصاد يعصمهم من نوبة جوع في أشهر الشتاء القادم!   

بعد نهار طويل وثقيل أسند رأسه لجذع النخلة وأغمض عينيه...غط في شبه غيبوبة...لاح له وجه أمه منكفئة حائرة في زاوية الكوخ، حولها أطفالها الخمسة...بعد انفراط عقد المزارعين وزوجاتهم عنهم...في اليوم الأخير من تأبين (فَضالة) مُشَغِلْ مضخة المياه (المجهول النسب)!

المضخة "العجوز" التي أيقظها (أبيه) بخبرته، بعد سباتها العميق لسنوات، فصار (فَضالة) صديقاً لـ(أبيه)، تلك المضخة التي كانت تسقي أراضٍ تمتد على طول الشريط الزراعي لحقول الحنطة والشعير المحاذي لنهر دجلة.

أدرك أن كيس الطحين الذي كانت أمه تُقَتِّرُ استهلاكه عليهم قد نفذ خلال أيام العزاء الثلاثة...رغم حرصها على عزل نصفه أول الأمر كي يكفيهم إلى حين الحصاد واستلامهم أجر مشاركتهم بالحصاد بضعة أكياس من الحنطة والشعير!

جلس على حافة الساقية التي توقف جريان الماء فيها مع توقف مضخة المياه عن الدوران بتوقف قلب (فَضالة) مُشَغِلِ المضخة الشاب الذي وجد قتيلاً مُمَزَقاً بخناجر الثأر القبلي!

لا أحد يعرف من قتله؟!

ولِمَ قُتِل؟!

يتداول المزارعون:

إنه قُتِلَ بسبب فعل ارتكبه (شخص ما) من قبيلته لا يعرفه (فَضالة)!

وهو يتطلع إلى الشارع الأسفلتي الممتد بجانب المزارع، المؤدي إلى العاصمة...تذكر "عروة" مرافقته لأبيه عند زيارته لصديقه الحداد (أحنف) قبل ثلاثة أعوام، في (شارع الشيخ عمر) بالحي الصناعي بالأطراف الفقيرة للعاصمة!

انهالت عليه بغتة هواجس ومخاوف من الموت جوعاً، مُحَمَّلة على أنين (أبيه) وتأوهات (أُمه)، وهي تسعى يابسة الريق من الشفق إلى الغسق لكسب لقمة تسد رمقهم.

عاد إلى (أُمه) من "خلوته!" وهمس بأذنها...نهضت خلفه مفزوعة متوسلة ألا يفعلها...

قَبَّلَ يدها...وقَبَّلَ رأس أبيه المُكَبَّلِ بغيبوبة الوجع التي عاودته بعد رحلتهم المضنية، وغادر المنزل حافيا مشياً على الأقدام باتجاه الطريق الأسفلتي!

وقف على الحافة الترابية للطريق يؤشر للسيارات المُسرعة إلى المدينة دون جدوى...حتى تعامدت أشعة الشمس وصارت تخترق يافوخه...حيث لا ظِلَّ يحتمي به...حتى ظِلَّهُ انطفأ عندما تعامدت الشمس على قحفة رأسه...شعر بدوار شديد وعطش تَيَبَّست له عروقه، لكنه لم يكف عن التوسل بالسيارات المسرعة منها والبطيئة السير!

اجتازته شاحنة قديمة قَبَّعَتهُ بغيمة من الدخان الأسود الخانق...انتابته نوبة سعال حادة لم تتركه حتى تبدد الدخان من حوله، وهو يراقب الشاحنة وهي تعود إلى الخلف... توقفت عنده...سأله (الرجل الأشيب) الجالس إلى جوار السائق:

الى أين أنت ذاهب؟!

أجابه باستعطاف وتوسلٍ:

الى (العاصمة) يا عم!

رد عليه (الرجل الأشيب) بوِدٍّ أبوي:

اصعد يا ولدي!

تردد برهة...ثم بادره الرجل:

لا تخاف.. اصعد دون أجرة...لكن اصعد على أكياس الطحين في حوض السيارة!

قطعت الشاحنة الطريق تولول كالنائحة...تزفر خلفها عموداً كثيفاً من الدخان...إلى أن توقفت عند الغروب أمام مخبز في زقاق ضيق وسط المدينة...هَبَّ إليهم رجلان كهلان من داخل المخبز وصاحا به:

لا تتأخر...ناولنا الأكياس بسرعة!

بخبرته وخفته في تحميل أكياس الحبوب في موسم الحصاد أدهشهم بسرعته ونشاطه، بحيث لم يلحقا كليهما به...خاطب أحدهما (الرجل الأشيب):

يا (أبا طارق) حسناً فعلت...شَغَّلْتَ هذا الفتى معنا...نحن نحتاج لمثله!

لم يستوعب معنى الايماءة التي أجاب بها (أبو طارق) على الخباز الكهل، لكنه شعر بقدر من الأمل.

سأله الخباز الأشهب:

من أي حي أنت؟

هل بيتكم قريب من هذا (الحي)؟!

قاطعه (أبو طارق) ...ساخطاً:

اترك الفتى وشأنه...أكملوا تنزيل الأكياس وباشروا تجهيز العجين!

وجد نفسه وسط ثلاثة رجال تجاوزا الخمسين من العمر، يعملون ويقيمون طيلة النهار ومعظم الليل في المخبز...لكنهم يتناوبون على أوقات الذهاب لمنازلهم...

طلب منه (أبو طارق) أن ينام داخل المخبز، ليوقد لهم النار بالتنور قبل مجيء الخبّازين قبل الفجر!

صار كلما تأججت نار التنور لاح له وجه أمه الذي اعتاد أن يراه كل صباح مضاءً بشواظ نار التنور... يعتصره قلبه شوقاً إليها ولأبيه ولإخوته...بعد مضي أكثر من أُسبوع على عمله في المخبز وانقطاع أخباره عنهم...غمره الشوق لأهله والقلق عليهم...كان يخشى إن هو طلب من (أبو طارق) رخصة لزيارة أهله أن يستغني عنه من العمل!

في عصر الخميس نادى عليه (أبو طارق) وأجلسه إلى جانبه...

نظر إليه بعين ملؤها العطف...قائلاً:

ألا تشتاق لرؤية أهلك يا بني؟!

اغرورقت عيناه بالدموع، لكنه اعتصر حزنه بصدره حتى كاد ينفجر...دون أن ينطق بكلمة سوى آهة فلتت من صدره!

أخرجَ الرجل ثلاثة أرباع الدينار ووضعها في يده...قائلاً له:

ستخرج الشاحنة بعد العشاء لتأتي بأكياس الطحين مساء يوم غد...

اذهب معها، وانتظرها عند عودتها غداً وتعال معها!

لم يصدق انه تَسَلَّمَ أول (أجر نقدي) من كدحه في حياته...هو الذي أمضى طفولته كـ (أبيه وأُمه) ...لم يعرفوا أجراً مُجْزٍ غير مكيال الحنطة أو الشعير!

كاد يمحق الدقائق المتبقية لمجيء الشاحنة كي يصل إلى (أمه وأبيه وإخوته)!

عندما عاد في الليل وجد (أمه) في أطراف القرية تتطلع إلى الطريق "ككل يوم" كما قالت له أخته:

ما أن تسمع حركة أو حفيف ريح وراء قوصرة الكوخ...في الليل أو النهار إلاّ قَفَزَتْ مفزوعة من مكانها صائحة:

عاد أخوكم!

وتنكفئ خائبة تُطفئ دموعها بنحيب مخنوق خلف الكوخ قلقاً عليك وحزناً على أبي...لتعود إلينا محتقنة الأجفان مُحْمرة العيون!

عانق أمه ووضع النقود في حضنها...جفلت كالملدوغ دافعة إياه والنقود ِبكلتا يديها...صارخة به:

هل جئت لنا بمال حرام؟!

هل سرقت؟!

من أين لك هذه النقود؟!

قَبَّلَها من رأسها وطمأنها:

هذا أجر عملي بمخبز في (حي الأكراد) ...جئت برخصة من صاحب المخبز الذي أعمل فيه، غداً أنتظر سيارة الطحين لأعود بها للعمل!

احتضنته بحرارة وأجهشت بالبكاء...وخاطبت أبيه الغارق بالغيبوبة بصوت مسموع:

اصبر على بلواك...لا تستعجل فراقنا...ها هو ابنك يستطيع أن يشتري لك الدواء!

انفجروا جميعا بالبكاء...حتى علا صوت جارتهم (أم ذيبان) تناديها:

اذكري الله يا (أم فاخر) ...ليس لأولادك غيرك وأبيهم...لا تقتلي نفسك بالبكاء!

صارت زياراته الأسبوعية لأسرته منتظمة، مثل حضوره جلسات (أبو طارق) مع أصدقائه الذين يحضرون كل ليلة سبت عند منتصف الليل...يَسمعهم يتحدثون كثيراً:

عن البؤس والحرمان والأمراض التي تستبد بفقراء الناس، عن بذخ الحكومة التي تأتمر بإرادة الأجنبي!

وصار له مسكن خارج المخبز مع شباب قادمين من الأرياف البعيدة إلى مشاغل في المدينة...

ذات ليلة كان قادماً قبل الفجر من المسكن إلى المخبز، سالكاً الزقاق المظلم شبه المهجور، كأقصر طريق بين المخبز والمسكن، إذا بفتاة تركض مذعورة متعثرة بعباءتها وغطاء وجهها...تَتَلَفَّتُ إلى خلفها مضطربة بخوفٍ يُلاحقها...لاحت له من بعيد سيارة جيب للشرطة مرت مسرعة في نهاية الزقاق ...ما أن وصلت الفتاة بالقرب من باب منزل (ابي طارق) حتى أمسك بها واستدار وإياها بحركة سريعة من ذراعه وأدخلها إلى المنزل...دفعها بسرعة خلف ستارة الباب!

طرق الباب بهدوء...ما ان خرجت (ام طارق) عند الباب فوجئت بالفتاة المرتصفة لجدار الممر الضيق المؤدي الى فناء الدار... انتشلها "عروة" بالقول:

يا خالتي...هذه ابنة عمتي جاءت معي منذ الفجر وستذهب للطبيب عندما تفتح العيادات أبوابها!

لم يعد (أبو طارق) إلى المخبز في ذلك الصباح...لكنه حضر جلسة ليلة السبت الأسبوعية، تحدثوا كثيراً عن النساء اللواتي اعتُقِلْنَّ خلال اجتماعَهُنَّ للاحتفال بـ(يوم المرأة العالمي)، وإفلات عدد مِنْهُنَّ من قبضة (الشرطة السرية)!

أثنى الشاب النحيل (أبو فهد) ذو الكلمات الرصينة والرأي المسموع (الذي يحضر بعض جلساتهم) على (الخدمة الكبيرة!) التي قدمها (أبو طارق) لإحدى (الرفيقات!) بحمايتها من ملاحقة (الشرطة السرية) لها، وإخفائها في بيته...استبدت الدهشة بوجه (أبي طارق) واستوطنه الصمت المتسائل!

ظل (أبو طارق) طيلة الجلسة شارد الذهن يُقَلِّبُ وجهه بين الحاضرين وعيناه عالقتان بسقف المخبز المتهالك!

ما أن خرجوا من مخبئهم في المخبز حتى ذهب (أبو طارق) الى منزله وعاد مسرعاً...وعيناه شاخصتان لـ"عروة"...اقترب منه وربت على كتفه باعتزاز وسأله هامساً:

باستغراب:

  • هل هي ابنة عمتك حقاً؟!

هز رأسه بالنفي...

هل تعرفها؟

رَدَّ عليه بعفوية مراهقة واثقة:

  • لا أعرفها...ولا أعرف لماذا تلاحقها الشرطة...لا يهمني ذلك...لكنها فتاة طريدة خائفة لوحدها في ظلمة الليل!

كان ذلك اليوم مفصلياً في حياته وعلاقته بـ(أبي طارق) الذي (تَعَرَّفَ عليه وعَرِفَهُ من جديد!)، كأنه يلتقيه أول مرة!

صارت أخبار أسرته شأن يتداوله فيه مع (أبي طارق) ...يحضر اجتماعات (المجموعة) خارج المخبز دون أن ينقطع عن الدراسة...يستكمل مع الخبّازين نوبتهم الصباحية قبل الفجر...يشاركهم نوبة الظهيرة بعد العودة من المدرسة...أصبح مُقَرَّباً من (الشاب النحيل) الذي يدعونه (أبو فهد) ...يخرجان معاً...يدس إليه (أبو فهد) منشوراتهم (السرية!) تحت نضيد أرغفة الخبز!

صار يقرأ (مفردات!) لم يسمع بها أو يقرأها من قبل، مفاهيم جديدة كانت عسيرة على فهمه!

ذات فجر بارد كانت الشوارع مُكتَظَّةٌ بالمظاهرات الصاخبة والشعارات المُنَدِدَة بالحكومة وبالأجنبي الذي يسرق ثروات البلاد!

رغم ذلك فإن المخبز لم يغلق أبوابه...لأنه:

لقمة عيش الفقراء!

هكذا قال لهم (أبو طارق) قبل أن يتركهم ويَنْظَمَّ إلى المتظاهرين...استمرت التظاهرات المطالبة بتغيير الحكومة أربعة أيام متتالية...لم يعد فيها (أبو طارق) إلى المخبز.

عرفوا فيما بعد أنه اعتقل مع (أبي فهد) وعدد كبير من المتظاهرين، نقلوا من هناك إلى سجن (نقرة السلمان) ...ذلك السجن السيء الصيت، الذي أنشأه (السير جون باغوت غلوب باشا) الملقب بـ(أبي حنيك) أحد ضباط القوات الإنكليزية المحتلة في عشرينيات القرن الماضي في منخفض صحراوي مقفر بالقرب من الحدود العراقية السعودية!

إثر ذلك حضر “عروة" لأول مرة اجتماعا مع من بقي من المشاركين بجلسة ليلة السبت في (مسكنٍ خلف السدة الترابية للعاصمة) بعيداً عن أعين (الشرطة السرية) ...بعد أن أغْلَقَتْ الحكومة المخبز بالشمع الأحمر!

ولم ينقطع عن زيارة صديق والده الحداد (أحنف) طيلة تلك الفترة بحثاً عن عمل، لكنه كان يتجنب الخوض معه في أي حديث، لأنه في كل مرة يزوره يجد عنده (ضيوف!!) من (الشرطة السرية) يقيمون في الدكان المجاور، يترصدون أشخاصاً في الكراج المقابل...

في المرة الأخيرة عندما ذهب إليه وجد الكراج ودكان الحداد (أحنف) مُغلَقَينْ، دون أن يقترب منهما، لحق به الفتى (صاهر النُحاس) العامل مع الحداد، وحَذَّرهُ من التردد على المكان...قائلاً له:

الجميع اعتقلوهم!

لم يتأخروا عليه كثيراً حتى أوقعوه بكمين عند زيارته لأُسرته...وسيق إلى التوقيف ليمضي خمسة أشهر تحت التعذيب...خرج منه يُتْقِنُ أبجدية الكراهية للسلطة، يُحسِنُ لغة الحوار العفوي الشائك، يتباهى مع نفسه بمهارات (العمل السري) وتَحَمُل أوجاع التعذيب!

صار ينتمي لمئات الآلاف ممن يحبهم ويثقون به، دون أن يراهم أو يعرفوا اسمه أو هويته...كان مجهول الهوية معلوم الأفعال...تَعَرَّفَ هناك على أخبار من كان يسمع عنهم كقدوة له من خصوم الحكومة والأجنبي المستعمر...رسخت في ذاكرته ما سمعه من نقابي في السبعين من العمر كان معهم في غرفة التوقيف عن قادتهم:

الذين حكمت عليهم المحكمة بالإعدام وتم تنفيذ حكم الإعدام بهم قبل إعلانه، يوم 14 شباط 1949 حوالي الساعة الرابعة والنصف من فجر ذلك اليوم!

بعد مضي ما يقرب من ثلاثين عاماً...

التقى "عروة" (أبي فهد) في زاوية بمقهى شعبي في أطراف العاصمة، كان أشعثاً رَثَّ الثياب...وقد هَرِمَ قبل أوانه...بدى كأنه في عامه الثمانين وهو لم يطرق بعد باب الستين...حَدَّثُه عن (الشهيد أبو طارق) وعن الآخرين من (الرفاق) الذين تفرقوا بين نزيل في القبر، أو أسير في السجن، أو تائه في الغربة، أو منكفئ على ركام هزيمته يجترع سم أيامه الأخيرة!!

انعطفوا بأحاديثهم إلى مُعْسِرات الحياة المتناسلة، قفزوا هرباً منها إلى حكايات (نسيم الحب!) الذي عصف بشبابهم ولم ينسوها حتى وهم في أوج محنتهم تلك الساعة!

من فرط يباب حاضره انفلت (أبو فهد) يقص عليه بعض صفحات سجل أيامه الماضية:

في أول زيارة للعوائل إلى السجناء بسجن (نقرة السلمان) وأنا متخبط باليأس أسَرَتني (عيون عسلية) لفتاة بين جَمْع الزوار...كانت تقف في الطابور تحت الشمس إلى جوار أمي وأختي الصغيرة (أمل)...رغم شوقي لأمي ولسماع أخبارهم بعد انقطاع مورد العيش عنهم نتيجة سجني ،ألاّ أن عيوني ظلت شاردة تبحث عن (ذات العيون العسلية) بين حشد العوائل والسجناء وسط الباحة الترابية الواسعة التي تتوسط زنزانات السجن...دون أن أفلح في رؤيتها...حتى بعد صراخ السجّانين بالعوائل وتفريقهم وإخراجهم عنوة وتهديدهم بـ(منع الزيارات في المستقبل إن هُم لم يخرجوا بانتهاء وقت الزيارة)!

كنت أنتظر أوقات الزيارات بشوق بقدر شوقي لأمي...ولـ (ذات العيون العسلية) ...مضت الأشهر وأنا أنسج أحلاماً في روحي...صوراً أتخيلها رغم وحشة السجن هائماً مع (ذات العيون العسلية)!

في كل يومٍ أجول في قاعة السجن أو عند إخراج السجناء من القاعات إلى الساحة الترابية المشمسة ضحى كل يوم، أتأمل وجوه السجناء...أتفحصها مرات ومرات...لم أجد بينهم شيباً أو شباباً من هو يمتلك (ذات العيون العسلية)، التي عند تلك الفتاة!

ولم أطق صبراً بعد أن مضت أكثر من سنة على ذلك اليوم...فجلست أُفضفض خِزانة أسراري لـ(أبي طارق)، ابتسم لي ببهجة الأب لابنه ووعدني:

إنه سيكشف لي سرها مثلما منحته أنا ثقتي واطمأننت له وكشفت له أسراري!

تمضي الأيام والأشهر...تدخل مجموعات جديدة إلى السجن كلما عصفت المظاهرات والإضرابات بالسلطة الحاكمة...يخرج منهم أفراد بعد انتهاء مدة حبسهم أو عند انتهاء أعمارهم.

ذات صباح كان أحد السجناء يستعد للخروج من قاعة السجناء الكبيرة المقابلة بعد إخلاء سبيله بسبب قرب انتهاء محكوميته وتدهور حالته الصحية...كانت أُسرته تنتظر عند بوابة السجن الرئيسية...لمحت الفتاة (ذات العيون العسلية) بينهم...ركضت كالمجنون نحو (أبي طارق)، وهمست له بأذنه، جاء مسرعاً معي باتجاه بوابة قاعة السجن...لكن السجين وعائلته كانا قد غادرا مدى الرؤية!

عُدْتُ إلى مكاني خائباً لكن (أبو طارق) شَدَّ على معصمي:

مازلت عند عهدي.. سنصل إليها!

في المساء اقترب (السَجّان الأمرد) ذو الضحكة المجَلجِلة من بوابة الزنزانة المشبكة بقضبان حديدية غليظة كعادته يستجدي سيجارة من السجناء...وقف (أبو طارق) إزاءه وأخرج علبة سجائر إفرنجية لم تُفتَح بعد، وقدمها له من بعيد...هَمَّ السَجّان لأخذها...قال له (أبو طارق):

إن للعلبة ثمن!

سأله السَجّان باستعطاف:

ماذا تريد؟!

أعطني إياها.. وسأعطيك سروال مدير السجن إن شئت!!!

طلب منه (أبو طارق) الاقتراب من قضبان البوابة حتى دخلت أذنه فضاء قاعة السجناء... وَشْوَشَ في مسامعه فجَحَضَت عيون السَجّان استغراباً...ثم انفرجت أساريره منتشياً...متسائلاً باستغراب:

هل حقاً إنَّكَ لا تعرفه؟!

أم أن لك مآرب أخرى؟!

وضع (أبو طارق) علبة السجائر على حافة اللوح الحديدي وقال له:

قُلْ...تأخذ!

أفصح له عن اسم السجين المريض...

امتقع وجه (أبو طارق) بشحوب وكأن الدم استنزف من بشرته...جلس على الأرض...سقطت علبة السجائر منه إلى خارج بوابة الزنزانة، فالتقطها السَجّان وأخفاها تحت سرواله، وزاغ عن عيون الرقباء!

في الليل استعاد (أبو طارق) عافيته، وأفصح لي عن أن الرجل:

سجين قديم من خُلَّصِ أصدقاء (القادة!) ...

كان معهم في زنزانتهم ليلة إعدامهم...لكنه حكم بالمؤبد لاعتلال صحته!

هو ممن لا يردون لي طلباً!

لم يَزُرْ النوم عينيّ تلك الليلَّة ولا ليالٍ أخرى أعقبتها...حَدَّثْتُ أمي في أول زيارة لها إلى السجن بشغفي بعيون فتاة لا أعرف اسمها...احتضنتني ووعدتني بأنها تَدَّخِرُ بعض المال لهذا اليوم.

ذات زيارة لعوائل السجناء إلى السجن كان بينهم زائر مَر َّعلى السجناء في الباحة...يهلِّلون ويبتهجون برؤيته...عندما أقبل علينا احتضنه (أبو طارق) بحرارة لشفائه من مرضه، غمز لي من وراء ظهره مشيراً إلى أنه مُبتغاهُ!

في ذلك اليوم إرتكن (الزائرُ) و(أبو طارق) إلى زاوية بالساحة الترابية التي تغص بالسجناء وذويهم... دارت دردشة بينهما كنت أتمنى لو استطالت أُذنيَّ لتقبع عند أفواههما...لكني كنت أرصد حركة شفاههما واستنطقها بمخيلتي لقياس الرضا من غيره في ملامح (الزائر)...لكنهما أعطيا ظهريهما للساحة ومن فيها...طال الكلام بينهما حتى بددت صافرة حارس السجن إلفه السجناء مع عوائلهم!

كنت أتابع (الزائر) وهو يجر خطاه المتعبة إلى جوار شاب مفتول العضل كان يتكئ عليه عندما عبر بوابة السجن الحديدية الخارجية... التفت فجأة ونظر من بعيد حيث أقف مُسَمَّراً في الأرض وعيناي مشدودتان إلى حيث التفت (الزائر)...كدت أطير من الفرح عندما رفع يده محييّاً إيّاي!

تَفَجَرَ الحزن في روح (أبي فهد) فجأة ونضح شحوباً في ملامحه...وأطرق للأرض صامتاً شارد الذهن دقائق طويلة منقطع عن صخب الشارع وصتيت الزبائن في المقهى قبل أن يستكمل حكايته:

كانت حياتي عسلية مع (ذات العيون العسلية) في سنواتها الأولى...لكن حياتنا إدلهمت ظُلمة مع تفاقم مطاردات السلطة لي، وتقطع سبل العيش، إثر اختفاءاتنا المتكررة في مجتمعات ومدن وبيوت مختلفة مع ابنتنا، التي أسميناها (انجيلا)، الطفلة الجميلة التي طالما تأملت وجهها المُشرق في لحظات يأسي فتشيع في روحي الأمل وفي عقلي التوقد!

صارت تكبر ويكبر معها حلمي بأن يكون لي يوماً أحفاداً كما كان لجدي رهط من الأحفاد يحيطون به في مساءاته عند شرفة الشناشيل في بيتنا القديم.

في كل مرحلة كانت (انجيلا) تتعلم لغة القوم الذي نختفي بينهم، واتقنت اداء طقوس ديانات اصدقائها الذين تشاركهم أعيادهم واحتفالاتهم في طفولتها وصباها ومراهقتها.

تَلْفُتُ أنظار المعجبين لفتنتها وذكائها ورشاقة جسدها الذي تأنث ونضجت ملامحه قبل أوانها!

كانت تجدد في نفسي الأمل وشغف الشباب وتَرَفُعِهِمْ على التشبث بالمنافع المادية الرخيصة... سرى فيَّ كبريائها المتغطرس، عدم اكتراثها بالعواقب...أمسى مستقبلها يشغل بالي مع اقتراب الأشهر الأخيرة من العام الدراسي في الصف السادس الثانوي...حتى أنني فَكَّرْتُ دون أن أكشف نواياي لزوجتي بـ:

أن نُهَرِّبُها إلى خارج البلاد كي لا ينتقموا مني بها!

لكني خشيت من أن تعيد عليَّ زوجتي سهام اللّوم لـ(تدميري حياتها بسبب التورط بالسياسة)!

ازداد قلقي عليها في الأيام الأخيرة، بعد تواتر الأخبار عن اختطاف فتيات من أبواب مدارسهن، ومنهن صديقتها (مروة) ابنة مذيعة تلفزيونية معروفة...سَرَتْ معلومات متواترة عن وقائع تحدث في مناطق متعددة من العاصمة...تقول:

إن عصابات من حراس (ابن الرئيس) هي التي تختطف الفتيات الجميلات لاغتصابهن!

لكن فاجعة الحداد(أحنف) بابنته التي أُلقيت جثتها مُقَطَّعة في كيس بلاستيكي قبل الفجر عند باب بيته، أشعلت الرعب في نفوسنا وفي قلوب عوائل جميع مناوئي السلطة، وحتى عوائل خَدَمِها، وكذلك عوائل الناءين عن منافعها ومساوئها...

صرت أُرافقها إلى المدرسة وأنتظرها على الرصيف المقابل حتى نهاية الدروس لأعود بها إلى البيت!

لم أقتنع برأي زوجتي:

لنزوجها من ابن خالتها في الريف بعيداً عن أعين السلطة!

كنت مطمئناً لاستكمال أوراق سفرها (المُزَوَّرة) وإخراجها وأمها عبر الحدود الجبلية إلى خارج البلاد لإكمال دراستها!

لم تسعفني صحتي لمرافقتهما ذلك اليوم بعد أن استعصى مرضي على الأطباء في المستشفيات الحكومية التي أُفرِغَت من خيرة الأطباء، وعجزت عن توفير الدواء بسبب الحصار (الدولي!) و(الحكومي!) ...

كُنت وامها قبل ذلك نتناوب على مرافقتها إلى المدرسة خلال أيام الامتحان النهائي.

في تلك الليلة التي سبقت اليوم الأخير من الامتحان النهائي تدهورت حالتي الصحية ونُقِلْتُ ليلا إلى المستشفى...

دخلت في غيبوبة لأسبوعين...

أفقت بعدها...

لم أجد زوجتي إلى جانبي... أبلغتني الممرضة:

غادرت زوجتك المستشفى مفزوعة منذ عشرة أيام...

تبحث عن ابنتكم التي اختطفت مع زميلتها!

ومنذ ذلك اليوم وأنا مُشرَداً في الشوارع أبحثُ عنْهُنَّ!

 

رواية (ذاكرة التراب)
(الفصل الثالث)
(ثريا) مضيئةٌ في ليلةٍ ظلماء!
رغم هجير الظهيرة في العراء المُقفر عند الركن البعيد لجدار معسكر القوات البريطانية غربي نهر دجلة، كان الأطفال والصبيان الحُفاة يتدافعون للحصول على فُتاتْ الموائد التي يلقيها الطبّاخون الهنود إلى مكب النفايات هناك بعد كل وجبة طعام لجنود الاحتلال!
تتعالى أصواتهم بهجة، يتسابقون لجمع ما تصل إليه أيديهم لملئ قدورهم العتيقة التي استبد بها السخام والصدأ...متجاهلين الشتائم التي يطلقها عليهم العسكري ذو العنق الطويل الأحمر كعنق الديك الرومي... ذلك الجندي الذي لم يُستَبدَلُ منذ سنوات، كغيره من العساكر الذين يُستَبدلون في موقع المراقبة المطل على قطيع الأكواخ البائسة، الذي تَوَرَّمَ في (منطقة الشبانه) إلى جوار المعسكر عقب احتلال المدينة وإنشاء المعسكر في الثاني من حزيران 1915!
لم تمض سوى سنوات قليلة لم يتذكر مداها...تلك التي ابتنى أبيه لهم فيها كوخاً من القصب والبردي بجوار كوخ عمته (نوفه الجنديل) في أطراف (منطقة الشبانة) في ذلك (السَلَف) المبتلى بالوحول والعويل كل ليلة لفقدان عزيز يُختَطفُ عمرَه مرضاً أو جوعاً، بعد ترحيلهم إثر حملة الحكومة لإزالة أكواخ (خرابة سعدة) من جنوب المدينة!
خرج أبيه قبل الفجر ككل يوم بحثاً عن المكان المحكوم بالصدفة...عندما جاءت (الشرطة العسكرية البريطانية) برفقة ضابط مركز شرطة المدينة (عزرا وردة) مُعلناً بلهجة عربية مفككة عبر مكبرات الصوت:
انتهاء مهلة إزالة مئات الأكواخ القريبة من المعسكر!
بعد شهرٍ من اختفاء عسكري بريطاني إثر خروجه من باب المعسكر، وانقطاع أخباره، رغم حملات التفتيش التي لم تستثن حتى منازل خدم المُحتلين...دون أن يغفل (عزرا وردة) تكرار وعيده واختتامه بالتهديد:
سنجرف الأكواخ...صباح بعد غد الجمعة!
جمعوا أسمالهم ووضعوها في عربة يجرها حمار...كانت تنقل العاجزين من الرجال والأطفال والنساء المهزومين، ومعهم محتويات الأكواخ بعد سريان شائعات تقول:
سيحرق الإنجليز الأكواخ بمن فيها عند منتصف الليل!
تشردت العوائل البائسة في الشوارع وفي خرائب المدينة، وداخل المباني المهجورة، وبين أجداث المقبرة... وضعوا صرائرهم إلى جوار نخلة على ضفاف دجلة يترقبون ما يدور في ذهن أبيهم الذي يتحدث همساً منذ أكثر من ساعة مع جارهم (زاير رمضان) بعد عودته من المدينة باحثاً عن موطئ عيش لهم لا تطردهم الحكومة منه!
رافق أباه في بحثه عن جارهم (فجر عبيد) الذي تعرفوا عليه منذ كان من بين (النيسانيين!) الذين ذهبوا معهم في شهر نيسان قبل سنوات للحصاد في حقول الحنطة بـ(قضاء شيخ سعد)!
حال التقائهم به، أرشدهم (فجر عبيد) إلى القلعة الطينية التي آوى إليها مع أسرته وأقام له فيها كوخاً... شاكراً (الحاجة خيرية) صاحبة القلعة ومالكة البساتين المحيطة بها...
الذي وعد أبيه بالحصول على فرصة له كـ(ناطور) في قصر قيد الإنشاء قريبا من القلعة!
لم يشأ (فجر عبيد) المرور بهم أمام القصر الفخم الذي تغطيه أشجار عالية ونخيل باسق، فقطعوا الشارع مباشرة إلى القصر المجاور (قيد الانشاء) الذي يُسمع من داخله صدى مطارق النَجّارين...
وقفوا إلى جوار سيارة جيب زيتونية قديمة توقفت للتو عند الباب...نزل منها رجل سمين أعرج اصفرت شارباه من كثرة دخان السجائر التي لم تفارق شفتيه...يقال له (الجلبي)...كان الرجل يتطلع إلى قصره وهو ينفث دخان سيجارته الغليظة نحو السماء... ما أن رآهم حتى أشار بيده بالموافقة قبل أن يتحدثوا معه، وكأنه أمر متفق عليه بينه وبين (فجر عبيد).
جلسوا على رصيف القصر الأمامي إلى جوار السياج الفاصل بين القصرين...أشار (فجر عبيد) بصمت إلى القصر الفخم العتيق بعيون زائغة من شدة الخوف...متلفتاً يميناً شمالاً...مُحَذراً:
لا تقتربوا من (قصر الباشا)!
أطلق (فجر عبيد) زفرة من قرارة روحه...كأنه يحدث نفسه بصوت مسموع:
لم يرتكب إثماً أو جريمة...أطلق عليه الرصاص بدم بارد وطلب من سائقه (الأعجمي) أن يشحط الجثة إلى خارج القصر، ويرميها على الرصيف كي لا تلوث حديقته!
لم يكن المرحوم (البُستاني موسى المعَرْيَّن) يعرف أن تحت قدميه نبتة صغيرة تلقاها (الباشا) هدية من (متصرف اللواء) ...ذهب (موسى) ضحية سحقه تلك النبتة بقدمه دون أن يدري!
ترك خلفه أربعة أطفال صغار توفي أحدهم من شدة البرد بعد مقتل أبيه بشهرين لأن (الباشا) طردهم من الكوخ الذي كان يأويهم في أطراف بساتين (الباشا)!
أشار (فجر عبيد) بعينيه إلى شجرة داخل (قصر الباشا) تعلو أفانينها السياج:
هذه النبتة التي قُتِلَ (موسى) بسببها...هو مات وهي باقية!
في اليوم التالي أقاموا لهم (كوخاً) من القصب والبردي في قلعة الحاجة (خيرية)...
عندما اشتغل أبيهم كسائق في بلدية المدينة...طلب منه أن يكون بمحله في النهار (ناطوراً) في قصر (الجلبي) بعد أن يعود من المدرسة...صار يأخذ دفاتره وكتبه ويجلس في حديقة القصر...يُبدد وحشته بمراقبته الطيور المتنوعة الألوان والأحجام والأصناف، التي أقام لها (الجلبي) قفصاً كبيراً في زاوية الحديقة الواسعة!
بعد أن توقف العمل في القصر لعجز صاحبه عن الإيفاء بديونه للمقاولين...صار القصر ملعباً لـ “عروة" ولإخوته الصغار...الذين غالبا ما كانوا يلحقون به...يتعالى صدى أصواتهم في حجرات القصر الكثيرة الفارغة المختلطة بزقزقة العصافير بين الأشجار والنخيل...
ذات يوم انتبه إلى نافذة تشرف عليهم من أعلى (قصر الباشا) تُفتَح بحذر، تتحرك الستارة من خلفها...يسمعون من خلفها أصوات كركرات طفولية مكبوتة، لا تغلق النافذة إلاّ عندما يأتي أبيهم إليهم ويعودون إلى (كوخهم) في القلعة!
ذات ظهيرة وقفت سيارة أجرة في باب (قصر الباشا)، نزلت منها امرأة عجوز تبدوا عليها ملامح الخدم، معها حقيبة ثقيلة وصرائر من القماش...هَبَّ إليها "عروة" دون دعوة، وحمل لها أثقالها...دخل لأول مرة إلى فناء (قصر الباشا)، فطلبت منه زاجرة أن يضع أغراضها ويخرج بسرعة قبل أن يراه (الباشا)، ظهرت صبية بعمره من باب القصر الداخلية محتفية بالمرأة العجوز...تعالى صوت فتيات مبتهجات في الداخل، أشارت إليه العجوز بيدها طاردة إياه كأنها تَنُشُّ ذباباً يلحق بها!
عاد إلى مجلسه إزاء قفص الطيور...يقرأ بشغف لامتحان التاريخ عن (زنوبيا ملكة تدمر) التي قادت مع زوجها (أُذينة) المُكَنّى (رئيس المشرق) عصياناً على الإمبراطورية الرومانية...تَمَكَّنا خلاله من السيطرة على معظم سوريا...خلفت زوجها في الحكم بعد وفاته، لأن ابنها (هبة الله بن أذينة) لا يزال حينذاك طفلاً رضيعاً، فتسلمت مقاليد الحكم وقادت جيوش (مملكة تدمر) في غزوها لمصر وآسيا الصغرى لفترة من الزمن قبل أن يتمكن (الإمبراطور أورليان) من هزمها وأسرها ونقلها إلى روما حيث سرعان ما توفيت لأسباب غامضة!
شعر بانقباض في روحه، كاد يبكي لمصيرها!
نسي الامتحان وراح يتخيل (ملكته زنوبيا!) ...يرسمها على هوامش الكتاب بمشاهد مختلفة...
في أوج غيبته مع (الملكة زنوبيا) ...نادت عليه أخته الصغيرة...تسأله إن كان معه كتاب الرياضيات لأن (ثريا ابنة الباشا) طلبته منها من خلف الجدار...لم يكن الكتاب معه لكنه طلب منها الانتظار... ركض كالنمر إلى القلعة التي تقع خلف البستان المجاور للقصر وعاد بالكتاب من كوخهم مسرعاً...في اليوم التالي تلقى عقوبة وضرباً مبرحاً من مدرس الرياضيات لأنه لم يكن معه الكتاب!
تسللت (الصَبِيَّةُ ثريا) من باب قصرهم إلى معتكفه أمام قفص الطيور، شكرته على الكتاب الذي احتضنت أوراقه وردة حمراء نضرة...ظلت واقفة لثواني، دعاها للجلوس على بساط الحديقة الأخضر... يحَّدِّثُها عن الطيور وعوالمها...انتبه إليها وهي تتصفح كتاب التاريخ وتتأمل رسومه على هوامشه!
صارت تأتيه كل يوم عند قيلولة أهلها وغياب أبيها (الباشا) في رحلاته الكثيرة...كانت (ثريا) ذكية في الرياضيات ومصغية حالمة، يحكي لها قصص التاريخ كما يرويها الكتاب المدرسي، ويضيف منه لأحداث التاريخ ما ليس فيه...فيما كانت تَسِّرَّه همساً:
إنها لم تكن تستمتع بكتاب التاريخ من قبل كما هي اليوم!
سمع صراخاً أنثوياً في (قصر الباشا) لم تكترث له (ثريا) لكنه قفز من مكانه بحركة لا إرادية...أمسكت يده وأقعدته قائلة بصوت مخنوق بعبرة:
هذه أختي الكبيرة (نورية)...وِلِدَت مقعدة ومُعاقة عقلياً...تدهورت حالتها بعد وفاة أمي قبل خمس سنوات...منذ ذلك الحين...كلما استيقظت من النوم تتذكر أمي فتصرخ وتنادي عليها!
عقب وفاة أمي تولت رعايتها أختي الكبرى (كريمة) المعلمة في (مدرسة الملك فيصل الثاني النموذجية للبنات) ...تساعدها في ذلك (ستارة) المربية التي حَمَلْتَّ أنْتَّ أغراضَها لها!
عندما ولِدنا وجدنا(ستارة) في القصر واحدة مِنّا...كانت المرحومة أمي تقول إنها جاءت بها من إيران قبل أكثر من عشرين سنة عندما كانت أمي تعالج هناك من مرضها...ثم جاءت بأخيها (غلوم) سائقاً لنا!
تلفتت نحو قصرهم خشية من مجهول، وقالت بصوت هادل:
سيأتي أخي الكبير (غيث) وزوجته وأولادهما يوم الجمعة من بغداد، يمكثون معنا طيلة العطلة الصيفية...ألاّ أنه سيعود إلى عمله طياراً بالخطوط الجوية بعد أسبوع لانتهاء إجازته...أنا فرحة لمجيئهم...عندما يأتون تصير أيامنا أجمل...تُضاءُ جميع مصابيح القصر، نلعب دون أن يزجرنا أحد...نمرح في الحديقة ونلتقي بصديقاتنا!
تزايد عدد الأطفال والصبيان والصبايا العابرين من (قصر الباشا) إلى حدائق قصر الطيور...يمضون معظم الوقت يلعبون مع الطيور ويعبثون بمواد البناء المتناثرة داخل وخارج المبنى...صار مُلزماً أن يدخل معهم في حجرات القصر خشية عليهم ومنهم...بعد أن انضمت إليهم (سعاد) ابنة صاحب (قصر الطيور) ذات العشر سنوات!
ذات نهار استدرجوه إلى اللعب معهم بعد أن كان متردداً خوفاً من غضب (أمه) عليه...التي توصيه كل يوم أن يتجنب الاقتراب من (قصر الباشا) ومن فيه!
ذات يوم شاركهم لعبة الاختباء...
وجد نفسه مع (ثريا) خلف باب مغلق...احتضنها واستسلمت بين يديه...غمره شعور لم يألفه من قبل...أحس كأن روحه تغتسل من الحرمان، قلبه يتنقى من الخوف، وعقله وجسده يرتعش حَدَّ الغيبوبة... فأدمنا على (لعبة الاختباء!) طيلة العطلة الصيفية!
لكن...
عندما سافرت عائلة أخيها...انقطعت (لعبة الاختباء)!
بعد انتهاء الامتحانات للمرحلة المتوسطة... كان يتابع خفق أجنحة الطيور الملونة في فضاء القفص الذي تُكَلْكِلُ عليه شجرة التين اليانعة الفخمة...امتلأت أنفاسه بعطر جسدها...وهي تقف خلفه معقودة الذراعين بحركة مثيرة...أمضيا ساعات يتحدثان عن أحلامهما المراهقة حتى المساء دون حراك...حَذَّرَتهُ من عيون سائقهم (غلوم) المريبة، ووشاياته بأقرب الناس إليه...همست في أذنه وهي تبتسم ابتسامة خجولة:
غداً الجمعة والجميع يتأخرون في اليقظة!
جاء مبكراً إلى القصر، وجد النافذة في الطابق العلوي لـ(قصر الباشا) مفتوحة، والستارة تتأرجح بحركة جسد خلفها...ترك باب الحديقة موارباً وجلس في الركن الذي اعتادا السمر فيه، دخلت مُسرعة وصعدا إلى مخبئهما الذي افترشا فيه بابا خشبياً لم يُرَكَّبْ في مكانه بعد... لم يدركا الوقت الذي مضى حتى الغروب... إذا بصخب يملأ حجرات القصر الفارغة، صوت أجش ينادي عليها، وقع أقدام ثقيلة تصعد السلم الجرانيتي، فتيبس الدم في عروقهما...قالت له وقد انقَضَّت قبضة الخوف على عنقها:
هذا صوت أبي...وخلفه السائق الكلب (غلوم)!
تمتمت بأنفاس فزع متقطعة:
اهرب إلى السطح...سيقتلك!
قفز كالهر إلى السطح...لمح (الباشا) يهرول عبر نافذة لم يُرَكَّبْ زجاجها بعد، وبيده مسدساً... أحس بأن الأقدام المتسارعة تصعد باتجاه السطح وصوت السائق (غلوم) يعلو خلفه:
سأُمسك به لك يا (باشا)!
تفحص "عروة" منافذ الهروب الممكنة من السطح، لم يجد سوى الأنابيب الحديدية لتصريف مياه الأمطار...انزلق بإحداها إلى الحديقة الخلفية ومنها إلى البستان الممتد إلى أطراف المدينة من جهة، وإلى القلعة الطينية حيث يعيش أهله من جهة أخرى.
لكنه ظل مُكَبَّلاً بالحاجة إلى الاطمئنان عليها...تسلل إلى الحديقة العامة المقابلة لـ(قصر الباشا)، يرصد المشهد من كوة في سياج الحديقة...كانت (ثريا) تسير مرتجفة وخلفها (الباشا) مرتعداً، يتبعهم السائق (غلوم)...زعق به (الباشا) وزجره بحركة من يده...لاذ إثرها (غلوم) بالفرار إلى خلف مرآب السيارات داخل القصر!
سمع "عروة" إطلاقة نارية داخل القصر مزقت سكون المكان، انهار على الأرض...ثم استجمع قواه وهرب بعيداً إلى مكان مجهول لـ(الباشا)!
أمضى النهار تحت فيء الجسر الحديدي المحني الظهر، كأم رؤوم فوق نهر دجلة...عندما أسدل الليل ظلمته سار وسط البستان المؤدي إلى القلعة، ونفذ من فتحة في جدارها الطيني الخلفي السميك إلى الباحة...بانت له صريفة أهله مهجورة، وسكان الأكواخ التي تحيط بكوخهم متجمعين حول الكوخ ومعهم الحاجة (خيرية) وقد خَيَّم الحزن على الجميع واكتست وجوههم بالحيرة...عاد إلى البستان وسار هائماً باتجاه أطراف المدينة!
ساقته خطواته لملاذٍ كانت (دوخة) تأخذهم إليه ليستريحوا به بعد عناء التشرد في الطرقات المقفرة، تحت فيء أشجار (مقبرة الإنجليز) التي شيدتها بريطانيا، على ضفاف نهر دجلة، بين أعوام 1914 و1920، واكتملت عام 1923، لتضم رفاة أكثر من 5000 جندي من (المملكة المتحدة) وجنسيات أخرى قتلهم ثوار العشائر!
وقف تحت ضوء المصباح أمام حائط المقبرة الذي دونوا عليه أسماء المدفونين فيها... سمع صوتاً ينادي عليه أن يخرج من المقبرة، عرف أنه صوت حارس المقبرة الذي يُسَلِّمُ عليه كل يوم في ذهابه وإيابه من المدرسة...لأنه والد صديقه (ألْماز المعَرْيَّن) ...
اقترب منه الرجل النحيف الفارع الطول ذو الوجه الأبلق المجدور، مُستغرباً من وجوده بالمقبرة في هذا الوقت المتأخر من الليل...اضطر أن يفصح له عن بعض حكايته...
اندهش لاهتمام حارس المقبرة (داوود) به وعطفه عليه...قائلاً له:
يجب أولاً أن يعرف أهلك مكان اختبائك ليطمئنوا عليك...
فهم يعتقدون أنه قد قتلك كما قتل أخي (موسى) الذي كان بستانياً عنده!
وطلب منه أن يجلس في غرفة حراسة المقبرة، وسيعود إليه بعد بعض الوقت...مضت ساعات طويلة عليه...يتأمل فيها الصلبان المصفوفة بعناية تحت أشجار النخيل...يتهجأ أسماء العسكريين الانجليز المدفونين في أرض غريبة عن مواطنهم!
بعد منتصف الليل عاد (داوود) بملامح خشبية لا تقرأُ فيها علامات الرضا من أخاديد الإحباط...لم يذكر له ما يمنحه الطمأنينة...لكنه أبلغه أنه ككل يوم "عادة" يغلق أبواب المقبرة عند العاشرة مساءً ويعود إلى بيته...
ودعاه للذهاب معه الى البيت!
في البيت أسَرَّ لصاحبه (ألْماز) بـ(حبه!) لها وخشيته من (الباشا) عليها، وقلقه على مصيرها، بعد أن سمع دويّ رصاصة من داخل القصر أثناء هروبه!
في صباح اليوم التالي اتخذ صديقه (ألْماز) من الشارع الذي يجثم فيه (قصر الباشا) ملعباً له، واستقر خلف فجوة جدار الحديقة العامة التي دَلَّهُ عليها "عروة"...عند الظهيرة لمح من بعيد أربع فتيات يصعدن السيارة ومعهن حقائب كبيرة...إحداهن تطابق الأوصاف التي سمعها منه...لكنها ليس كما قال له:
أجمل فتاة في العالم!!!
لأن الفتاة الانجليزية التي تشغل روح (ألْماز) ويلاحقها كل يوم أحد، عند زيارتها للمقبرة التي يحرسها أبيه وهي تجر خلفها كلبها الصغير لزيارة قبر جدها (أجمل منها!).
بعد سنتين انتقل إلى العاصمة للدراسة وانقطع عن المدينة مغموراً بالتساؤلات التي فجرتها في رأسه نوبات المحن وإضاءات الكتب التي انغمر بقراءتها، وحوارات الأصدقاء المشككين ببديهيات ومقدسات مجتمعهم، وانزلق لمنحدرات وسفوح العمل السياسي المعارض للسلطة، وهو ابن السادسة عشر من العمر!
تلاطمت عليه أمواج الأزمات العامة وتواترت نوبات الملاحقات الأمنية له، فتَجلَّت الأيام والسنوات له عن أصدقاء جدد استقروا في النفس، صاروا جزءاً من مكنون الذاكرة، وأفرزت أجواء الخوف له خصوم معروفين وآخرين مجهولين، كَبُرَت سني عمره حتى فاقت مداها الزمني، وشاخت عواطفه الفتية تحت ثقل (العَقْلَنَةِ) التي فرضتها عليه أزمنة التَفَكُّرِ في أقبية العمل السري المعارض...دون أن ينقطع حنينه وبكائياته على أهلة ومدينته وطفولته ومراهقته التي لم تترك (الملاحقات!) في ذاكرته منها سوى الحرمان وعتمة الأيام...إلاّ (ثريا) مضيئة...تخبو تارة وتسطع ابتسامتها بوجهه تارة أخرى كلما تَقَرَّبت إليه فتاة في حلك أزمنته!
بعد ما يقرب من ربع قرن أمضاها في الاختفاء والظهور المؤقت شبه العلني بعيداً عن أعين السلطة وهجير سنوات الغربة، عاد إلى مدينته يسأل عنها...وجد (قصر الباشا) مهجوراً...لكن صديق أبيه (الزاير رمضان) زارع الزهور في شارع دجلة حيث يقع القصر، مازال يواصل غرس الزهور وسط الشارع رغم انحناءة ظهره وبطءِ حركته...الذي أخبره:
غادروا المدينة جميعهم وتفرقت بهم السبل...
منهم من ذهب إلى البصرة وغيرهم إلى بغداد، وآخرين هاجروا إلى خارج البلاد قبل عشرين سنة بعد حادث اغتصاب سائقهم (غلوم) لابنتهم الصغيرة (ثريا)!
شعر بشواظ نار تتأجج في روحه...
سأله عن مصير (غلوم)؟!
أخبره إنه مات قبل عشر سنوات في السجن بعد أن تجاوز السبعين سنة من العمر!
سافر إلى البصرة لزيارة شقيقه...مهموماً بحادث الاعتداء على صِباه، رغم أنه لم يعرف أي شيء عن حياتها، ومآلها، وأين تكون.
عند وصوله إلى المدينة التي عُرف أهلها بانشغالهم بشؤون المعرفة قدر انشغالهم بأسباب الرزق...أمضى يومه الأول يتجول في معالمها المستقرة في ذاكرته...وجوهاً، صوراً، أحداثاً، بحثاً عن:
أزمنة مبدعة هجرها صنّاعها، أماكن خصبة هُجِّرَ عنها بُناتُها، حكايات لم تبرح الذاكرة ارتحل أهلها إلى الغيب!
في المساء عندما دخل (نادي الميناء) عسى أن يلتقي بمن تبقى من الأصدقاء...قَلَّب نظره في الفضاء الأخضر يُنَقِّبُ في غشاوة الضوء الخافت الذي يَلُفُّ المكان عن وجوه يعرفها...شخصت عيناه إلى الطاولة المستديرة التي يغمرها قَطَرِ الرطوبة...تحت النخلة التي تتوسط الحديقة، حَدَّق إلى الوجوهٌ الذابلة التي غزتها الشيخوخة قبل الأوان...وجد بينها بعض ماضيه...فتقدم نحوهم...
عند انضمامه إليهم طرقَت مسامعه ذات الأحاديث الملتبسة التي كان طرفاً فيها قبل سنوات طويلة وأمست مُخَبَّأة في ذاكرته...كانت الحفاوة صاخبة والقناني فارغة...والوجوه ملونةٌ...انهالوا عليه بذات السؤال الذي يصفعه به كل مَنْ يلقاه من أصدقاء الأمس الذين تناهى إلى مسامعهم خبر اعتقاله ومقتله...كان (مقداد) (مفوض الأمن السابق الذي صار صحفياً يسارياً!) أكثرهم إلحاحاً وأشدهم فضولاً في استنطاقه...يكرر عليه بشفاه رخوة من فرط الثمالة:
كيف أنت؟!!
كـكـيكـ...ف. أأانت؟!
ذلك السؤال الذي ينهال عليه...كأنه يُضمر اندهاشا غير محمود:
كيف ما زلت حيّاً؟!
كأن البعض يستكثر عليه بقاءه على قيد الحياة إلى تلك الساعة التي يلتقونه بها، يؤججون في نفسه مجامر اليأس والملل من حياته المُعَفَّرة بالإحباط، المُثقلة بالهزائم، المُكَبلة بالخيبات...يُذَكِرُهُ ذلك بقول (لبيد بن ربيعة العامري):
قُضِيَ الأُمورُ وَأُنجِزَ المَوعودُ
وَاللَهُ رَبّي ماجِدٌ مَحمودُ
وَلَقَد سَئِمتُ مِنَ الحَياةِ وَطولِها
وَسُؤالِ هَذا الناسِ كَيفَ لَبيدُ!
أُتْرِعَتْ الكؤوس من جديد...تَقلَّبَت الألسن من أخبار السياسة الصادمة إلى نصوص الثقافة المشاكسة، مروراً بالنواح على أطلال العُشق المُهَمَّشِ المندثر في حياتهم، حَدَّ انفلات أسماء من كانوا يهيمون بِهُنَّ عن ألسِنَتِهم...أو اللواتي يخشون التشبب بِهُنَّ ...ومن بين الحاضرين من ذَكَرَ اسم (ثريا) بفعل عمله معها!
عرف أنها تعمل في فرع بنك رئيسي...
تبددت الثمالة من رأسه وغادرهم متذرعاً بالصداع الذي فاجأه...ساحَ على امتداد ساحل شط العرب، مُستسلماً لذاكرة صِباه، جالساً متفرداً بنفسه على الشريعة المُقابلة لـ(قصر آغا جعفر) ذو الشناشيل الخشبية المزركشة بمهارة فنان مجهول.
مع بدء الدوام في صباح اليوم التالي كان أول الواصلين إلى البنك...دخل الصالة الفسيحة والأنيقة للمبنى الكونكريتية ذو الطابق الواحد...كانت الموظفات منشغلات وراء المكاتب المرصوفة بثلاثة خطوط متراتبة متوازية...امتلأت أنفاسه بعطر أنثوي مثيرٍ حالما دخل إلى الصالة رغم زحام المراجعين...صار يُنَقِّبُ بين الوجوه عن ضالته...يستحي أن يسأل عنها...مستعيراً حِيَّلَ المراهقة في فِكْرِهِ لافتعال سؤال ينتشله من حيرته!
انقبضت روحه فجأة عندما سأل نفسه:
ربما تكون متزوجة فيُحرِجُها؟!
أو تكون فَظَّةً غليظة القلب...فتَزجِرهُ أمام الملأ فتَحرِجُهُ؟!
كان في كل مرة عندما يقترب من حافة المنصة الزجاجية التي تفصل الموظفات عن المراجعين...ويأتيه الدور، يتخلى عن دوره لمن يأتي بعده...غَيَّرَ طابور الانتظار أكثر من مرة، كلما وجد أن الموظفة التي تجلس لتسيير معاملات الواقفين في الطابور لم تكن هي، لأنه لم يجد صورتها في الذاكرة موجودة بين الفتيات الأنيقات خلف الألواح الزجاجية...تَراجَع للمرة الرابعة...وأبصاره تمسح بحذر وجوه الفتيات البعيدة والقريبة.
تقدم إليه أحد حراس البنك وانفرد به، مستجوباً إياه بجفاف...لكنه ما أن شخصت عينا "عروة" إليه وحَدَّق به شزراً...حتى بهتت ملامح(الحارس) ظَنّاً منه أنه من أهل السلطة والسطوة...فقال له بأدب مُتذلل:
أنا في خدمتك...هل تبحث عن شخص ما؟!
أفصح له عن مراده بنبرة آمرة...أخبره (الحارس):
(ابنة الباشا) مجازة اليوم وستحضر صباح الغد!
ذهب في صباح اليوم التالي بذريعة فتح حساب في البنك، لكن حارس البوابة كان شخصاً آخر...
حال دخوله البوابة احتدم الشوق إليها في روحه، تقدم إلى موظفة الاستعلامات وسألها عنها...أشارت إلى غرفة زجاجية مُحْكَمَة المداخل تتوسطها فتحة صغيرة أنيقة للتواصل مع الآخرين...عُلِّقَتْ عليها لوحة نحاسية (مدير الفرع).
تقدم بخطوات مترددة ووقف أمامها وهي تسند رأسها إلى كفيها...تَفَحَّصَ أصابعها، لم يجد ما يوحي أنها متزوجة...تأملها وهي تُبحِر في ملف يبدو أنه شائك...
دون أن ترفع رأسها سألته بنبرة آلية:
أوراقك وهويتك أخي رجاءً!
قدم لها الهوية المدنية القديمة وفيها صورته يومذاك!
حَملَقَتْ بالصورة للحظات ونظرت إليه مصدومة من شدة الدهشة والاستغراب...
كأن ميتاً يخرج إليها من قبره...
انطفأت يديها على الطاولة...وعلِقَت عيناها المتسائلتين بعينيه التائهتين!