(الى آخر الملكات) قصيدة للشاعر العراقي علاء سعود الدليمي.
القصيدة مُفعَمةٌ بالمجازات والاستعارات البليغة، حيث يدور الشاعر مًلتفّاً على عشقه وإحساسه تجاه المحبوبة بعيداً عن غرائز الحبّ بالتعلٌّق الحسيّ والتهيُّج العاطفي، والتعبير عن كلِّ ذلك بذكر المحاسن والانشداد الرغبوي والإثارة الحسيّة، من خلال تصوير الحالة الوجدانية عند الشاعر. لكننا نجده يتجه صوب الوجد الصوفيّ في الحبِّ الإلهي الذي يرفع العاشق الموجود الى منازل عليا من الوَلَهِ والذوبان في ذات المعشوق بوحدة اندماجية عاطفية روحية مقدسة، فيها رفعة للمعشوق وسموّ خارج إغراءات اللذات والرغائب التي تدنّسُ التعلّق الوجداني والتعالق الروحي، وحتى مخاطبة المعشوق حسيّا رغائبياً هو تعبير عن الامتزاج الروحي البريء، وهو ما يعبَّر عنه بالحلم، بمعنى ليس حقيقةً واقعية بل طيفاً من الأحلام، لشدّة التعلّق والوله والتشوّق للقاء المحبوب. وبما أنّ شاعرنا يعتبر الحبيبة آخر الملكات مجازاً، وذلك لبيان عمق وتجذُّر العاطفة الجيّاشة تجاه الحبيب. وعليه نجد الشاعر يعبر عن كلِّ ذلك ببيان مكانة المحبوب في روحه وقلبه، لدرجة أنها تأتي طيفاً في أحلامه بثياب البراءة والعفاف الطفوليين. حيث يصوّر لنا حلماً طفولياً ،وهما يغتسلان معاً (مع الحبيب) في النهر (الماء) وبثوب البراءة؛ للتطهّر من الخطايا - إنْ كانت لهما خطايا - كما في طقوس المندائيين، فقد جعل الله من الماء كلَّ شيء حيّ، كما ورد في القرآن الكريم. فالماء (النهر) ترميز للنظافة والتطهُّر والبراءة والحياة والنقاء، وهو ما يقوله في خاتمة القصيدة:
لـلسباحةِ في النهرِ
نغطسُ معًا برفقةِ ثيابِ البراءة
استعار الشاعر النهر اشارة الى الماء وجريانه (نقائه)؛ لأنّ الجريان يجرّ معه الشوائب العالقة، وينظّف الجسد، وكأنه هنا يشير الى التطهّر من الأدران العالقة بالنفس، لتصفو من الخطايا. كما أنه يرمي بذلك الى العفاف في العشق. فالعشق حلم إنسانيٌّ للسموّ بالنفس نحو مدارج العلا والوفاء والتقديس، فالحبُّ عاطفة مقدّسة مُطهّرة للنفس تجمعُ اثنين على سرير الحياة المشتركة، فقد خلق الله المرأة من ضلع لآدم، فهي عضو مكمّل له، وجزء منه لا ينفصل عنه. والشاعر يصف لنا مدى تعلّقه بالمحبوب لدرجة الذوبان معاً، كما يبيّن مدى وفائه في عاطفته، لأنّ الوفاء صفة المُطهَّرين من شوائب النفس الأمّارة بالسوء وبالإحساس والشهوات الآنية العابرة الزائلة. الوفاء هو غاية العشق للعاشق الصافي النيّة، المولّهِ حدَّ الذوبان والتوحّد بذات الحبيب:
خذي حرفي... قصيدتي
محبرتي بل خذي قلبي
لن يخفقَ لسواكِ
هذا العشقُ عشقٌ صوفيٌّ، يملأ أحلام العاشق، حيث تتعرّى مشاعره، فيكفر بأعراف القبيلة التي تقف حجر عثرة في طريقه السليم نحو الحبيبة، فهو طاهر النفس والوجدان نقيُّ السريرة، عفيف المشاعر الجيّاشة البريئة؛ لذا فالكشف عنها يأتي في طيات الأحلام كشفاً صوفيّاً عمّا يضطرب في قلبه وفي نفسه الموجودة:
في باحةِ الحلمِ
تتعرّى المشاعرُ
تكفرُ بعرفِ القبيلةِ
فالقبلةُ
ثورةُ إبتهالاتٍ صوفية
في الذوبان الروحيّ
عنوان النصّ الأدبي هو عتبة الدخول في عالمه - كما يقولون - لالتقاط مكامنه الخفيّة خلف الكلمات والصور والمجازات والاستعارات التي يعمل الشاعر على استخدامها للوصول الى غاياته في البوح عن التجربة الروحية التي عاناها، فيُلقي مرساها على شواطئ الكلمات، لتخلق نصّاً يوصل زورقه الى المتلقي كي يعتليه ويقوده قراءةً صوب ميناء مضمون القصيدة وصورها وبلاغتها، فيتجوّل بمنظار قراءته في زواياها كي يرى، فيلتقط الأحجار اللغوية الكريمة، واللوحات الفنية المرسومة بالحروف، والملوّنة بأصباغ البلاغة ببديعها وبيانها. وفي النظر الى عنوان القصيدة (الى آخر الملكات) نكتشف أنّ الشاعر علاء سعود الدليمي يقدّم لنا عتبةً ومدخلاً من ثلاث كلمات، لكنّها توصلنا الى مضمون النصّ ومكامن بوحه، إنّه يأخذ بأيدينا الى عالم الحبّ. فالتي يصوغ القصيدة من أجلها هي ملكة قلبه وروحه الموغلة في تلافيفهما، الى درجة الذوبان والغياب، لذا يعتبرها الملكة الأخيرة توريةً عن وفائه وإخلاصه وعميق عشقه، فلا ملكة عنده بعدها. نفتح بهذا العنوان بوابة النصّ لنلج في عالمه الواسع: مشاعر، وعواطف، وأحاسيس، وحلم، وعشق، وذوبان، وغياب، ونهر، واغتسال بثوب البراءة في النهر، وهي الصورة الأخيرة للنصّ وخاتمة القول الفصل (بيت القصيد). إنه بريء النفس، طاهر المشاعر، نقيّ السريرة، نفسه أمّارة بالصدق والبراءة والوفاء والعفاف والعذرية. فلماذا إذن أعراف القبيلة تقف جداراً عازلاً بينه وبين من يعشق بوله وهيام؟ إنها النهاية المختومة بختم العشق الصافي.
لقد ألبس الشاعر حبّه الشديد رداء الصوفية، وذلك كي يسمو به الى مراتب العشق الكبرى السامية، والى رقيّ وعمق مشاعره الصادقة والمتأجّجة، والباحثة عن كوّة تخرج منها الى الفضاء والهواء النقيّ الخالي منْ ذرات أتربة الأرض بما فيها من عوالق السوء.
عبد الستار نورعلي
نصُّ القصيدة:
(إلى آخر الملكات)
لا غفوةَ لعاشقٍ
يمتطي صهوةَ حلمه
ينفثُ أشواقهُ قبلًا
على صدورِ الكلماتِ.
في باحةِ الحلمِ
تتعرى المشاعرُ
تكفرُ بعرفِ القبيلةِ
فالقبلةُ
ثورةُ إبتهالاتٍ صوفية
في الذوبان الروحيّ
في قطراتِ ثغرٍ عسلية.
يا آخر الملكات
خذي حرفي... قصيدتي
محبرتي بل خذي قلبي
لن يخفقَ لسواكِ
أعدكِ بالخنصر والبنصر
كما الأطفالُ.
كما القصبُ
يراقصُ ظلَّ الماءِ
تصيرهُ الأحزانُ نايًا
تأنسُ بهِ نفوسٌ أوهنها الغيابُ.
أما للطفولةِ من عودةٍ
لحلمةِ حياةٍ
أدمنها طفلٌ
يرتشفها أو يهلكُ
لـلسباحةِ في النهرِ
نغطسُ معًا برفقةِ ثيابِ البراءة.