نحن أمام تاريخٍ متطاولٍ من الروايات الزائفة، والمسيَّسة أحيانًا، المصادمة للعقل والواقع، لدَى مَن تبصَّر بملابساتها، لن ينهض بمراجعتها سِوَى تظافر الجهود المؤسَّسيَّة الشاملة.

هكذا زعمَ (ذو القروح)، في المساق السابق.  فسألته:

- عرفنا هذا في الأدب، خلال المقالات السابقة، فهل من شواهد من غيره؟

- كثير.  خذ، على سبيل المثال، ما جاء في (الحديث النبوي): ««يُوشِكُ الأُمَمُ أن تداعَى عليكم كما تَداعَى الأَكَلةُ إلى قَصْعَتِها.» فقال قائلٌ : ومِن قِلَّةٍ نحن يومئذٍ؟ قال: «بل أنتم يومئذٍ كثيرٌ، ولكنَّكم غُثاءٌ كغُثاءِ السَّيلِ! ولَينزِعنَّ اللهُ من صدورِ عدوِّكم المهابةَ منكم، ولَيقذِفَنَّ اللهُ في قلوبِكم الوَهْنَ.» فقال قائلٌ: يا رسولَ اللهِ، وما الوَهْنُ؟ قال: «حُبُّ الدُّنيا وكراهيةُ الموتِ».»(1)  فهنا يستوقفك الاستفسار عن معنى كلمة (الوَهْن)!  ولو كان السامعون غير عَرَب، لساغ تصوُّر هذا الاستفسار عن الكلمة.  ومن ثَمَّ فإن الوجه- وَفق هذا السياق- أن يكون الاستفسار عن أسباب الوَهْن: «لِـمَ الوَهْن؟»، أو «فيم الوَهْن؟»، لا عن معنى كلمة (الوَهْن) أصلًا: «وما الوَهْن؟»؛ فغَلِطَ الراوي، أو السامع، أو صحَّف الكاتب، ولعلَّ صواب الرواية: «فقال قائلٌ: يا رسولَ اللهِ، ولِـمَ الوَهْنُ؟ قال: لحُبِّ الدُّنيا وكراهيةِ الموتِ.» 

- يا ذا القروح، (أبو هريرة)، في أحد الأحاديث، كان يقول: إنَّه لم يسمع كَلمة «السِّكِّين» قط إلَّا مِن النَّبيِّ، وإنَّما كانوا يُطلِقون عليها في (اليَمَنِ)، أو في قَبيلتِه من (الأزد): (المُدْيَة).(1)  فالعَرَبيُّ لا يعرف بالضرورة مفردات العَرَبيَّة كلَّها!

- معك حق!  لكنَّ مادَّة (وهن) واردة في «القرآن الكريم»: «وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ؛ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَمَا ضَعُفُوا، وَمَا اسْتَكَانُوا،  وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ.»  وقال: «وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ؛ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ.»  وقال: «قَالَ: رَبِّ، إِنِّي وَهَنَ العَظْمُ مِنِّي.»  أترى السائل لم يسمع بهذه المفردة في «القرآن»؟  أم أنه يسمعها ولا يعرف معناها؟!

- وما أدراك متى سأل السؤال، أبعد نزول هذه الآيات أم قبله؟!  ثمَّ إنَّ كلمة (سِكِّين) كذلك واردة في «القرآن »!

- كلمة (وهن) شائعة في كلام العَرَب منذ الجاهليَّة؛ فـ(النابغة الذبياني)(3) يقول، مثلًا:

لا خَيْـرَ فـي عَـزْمٍ بِغَـيْرِ رَوِيَّـةٍ  :::  والشَّكُ وَهْنٌ إِنْ نَوَيْتَ سَرَاحا

وقال (طَرَفة بن العبد)(4):

وإذا تَلْسُنُني أَلْسُــــنُها،  :::  إنَّني لَسْتُ بمَوْهُونٍ فَقِرْ

وسَمَّى العَرَب آخر اللَّيل: وَهْنًا، ومَوْهِنًا، وقيل: هو حين يُدْبِر اللَّيل، كأنَّ ظلام اللَّيل قد وَهَن، وأخذ في التلاشي.  ففرقٌ بين اختلافٍ لهجي في تسمية شيء، وكلمة اشتقاقيَّة شائعة في اللِّسان العَرَبي، يبعُد أن يسأل عن معناها عَرَبي.

- ومن قال لك إنَّ السائل كان عربيًّا أصلًا؟!  ألم يكن من المسلمين غير عَرَب؟! 

- لقد جادَلْتَنا فأكثرتَ جِدالنا!  ما قصدتُه، أنَّ مثل هذا غيضٌ من فيض ممَّا يستدعي المراجعة الشاملة.  وهو مشروع، كما سلف القول، لمَّا تنهض به مؤسَّساتنا العلميَّة والثقافيَّة بَعد- إنْ كانت سوف تفعل- بل إنْ لم تكن تنهض بنقيضه، من إعادة تربيع ذلك التراث وتدويره، بعُجَره وبُجَره، مع الاستماتة في الدفاع عنه، ومحاربة مراجعيه وناقديه.

- ولذلك فأنت لا ترى مَدخلًا لأولئك الطَّاعنين في التاريخ والتراث والدِّين أكثر خِصبًا وخدمةً لأغراضهم من الروايات التراثيَّة نفسها!

- نعم، التي هي في أكثرها أحاديث أسمار، وأطراف أخبار، لا يُعرَف أصلها، ولا يَتحرَّى ناقلوها صحَّتها، أو حتى معقوليَّتها.  كما لا ترى مَدخلًا للطاعنين أكثر خدمةً لأغراضهم من أقوال بعض رجال الدِّين كذلك، وتأويلاتهم، وائتفاكاتهم، فإذا هم يرجعون إلى كتبهم، قائلين: هذه كتب علمائكم، أيها المسلمون، نحن لم نأت بشيء من جيوبنا، وهذا هو تراثكم أنتم، فردُّوا عليه ولا تردُّوا علينا، «يَداه أَوْكَتا وفُوْهُ نَفَخ»!

- ومن هذا زعم هؤلاء عراقة النزوع الإرهابي في العَرَب والمسلمين.

- وكأنَّ هؤلاء قد عَزَّ على عقولهم التوفيق بين سماحة الإسلام المبدئيَّة، وبين أخذه بالقُوَّة في الدِّفاع دون صيالة الصائل، وتآمُر المتآمر، واعتداء المعتدي! كأنَّ هؤلاء لا يستقيم في رؤوسهم إلَّا اتجاه واحد، إمَّا المسالمة الخانعة في كلِّ زمان ومكان وحال، وإمَّا القتال المجانيُّ في كلِّ زمانٍ ومكانٍ وحال!

- من الواضح أن تلك الرؤوس هي بالفعل أضيق- إنْ تربيةً أو ثقافة- من استيعاب فلسفة الإسلام.

- ولذلك فهي عاجزة عن استيعاب المعقوليَّة في أن يقول الله لنبيِّه، مثلًا: «قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا: يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ الله»؛ لأنَّ هذا بضدِّ طبائعهم، وبخلاف توتُّراتهم النفسيَّة، وهو يُقلِق مسلَّماتهم الثقافيَّة؛ فلا يجدون مَخرجًا لهم- لكيلا يرفضوا النصَّ القرآنيَّ من جهة، ولكي يتكيُّفوا مع عقولهم من جهةٍ أخرى- إلَّا في تبنِّي الحكاية السهلة: (حكاية المكِّي والمَدَني)، وما قَبل... وما بَعد...!

- ولنفترض جَدَلًا صِحَّة ما يقولون به من مكِّيٍّ ومَدَني، وما قَبل وما بَعد، أ فهم يفترضون أنَّ ما بعد الأمر بالجهاد هو ماضٍ إلى يوم القيامة؟

- ثمَّ ماذا إنْ رجع المسلمون إلى حالة ضعفٍ كتلك التي كانوا عليها في (مكَّة)، وهي حالهم اليوم؟

- أهي حالهم اليوم، أم هو الخنوع والعمالة؟

- تلك مسألة أخرى؛ دعنا نعدُّها ضعفًا، ولو افتراضًا! أيقولون هنا بالعودة إلى الأخذ بالآية: «قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا: يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ الله»؟ فيما يقولون: إنَّ آيات الجهاد إنَّما كانت قديمًا، أيَّام (المدينة)، أمَّا الآن فلنأخذ بسياسة أخرى، هي سياسة الغُفران؟! إنَّها نظرةٌ قاصرةٌ لمنطق الإسلام الشامل، وتجزيء له أشتاتًا، بحسب الأهواء، والحالات، والدُّوَل، والسياسات. وإلَّا فهو- لدَى كلِّ متجرِّدٍ- منطقٌ منسجمٌ مع ذاته، متكاملٌ في نظرته للحياة، يحكمه سياق المقال والمآل، ولا يستقيم فيه إطلاقُ أجزاء منه إطلاقًا، بما يَجُبُّ أجزاءه الأخرى. إنَّ الإسلام- كما نفهمه، وبعيدًا عن اجتهادات التأويل ومرقَّعات التاريخ- هو، مبدئيًّا، دِين الرحمة والعدل والعقل. وهو بناءٌ فلسفيٌّ متكامل، يتعامل مع الحياة وتقلُّباتها بما يناسب كلَّ مقام، ليس عن سياسةٍ انتهازيَّةٍ ماكرة، أو عن ميكيافليَّةٍ مقيتة؛ بل لأنَّ تلك هي، في الأساس، سُنن الحياة، وضرورات الأحياء، ومقتضيات التعامل معهما.      

- في هذا الصَّدد يقول لك (السيِّد المعمَّم بالسَّواد)- نموذجًا-: كيف يُقال في «القرآن»: «فَإِن تَوَلَّوْا، فَخُذُوهُمْ، وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ، وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا»؟ أين ذهبت «لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ»؟

- يا للسُّؤال الباذخ الغباء؟! وهو يدلِّس هنا على المستمعين، وعلى الحضور، وعلى المشاهدين، في آن، زاعمًا أنَّ الآية تقول: إنَّه لا بُدَّ أن يؤمن الناس وأن يهاجروا، وإذا تولَّوا- وهو يفسِّرها بمعنى: أدبروا ورفضوا الإسلام فقط- فلا بُدَّ من قتلهم! هكذا!

- فماذا تقول الآيات بنصِّها القرآني، لا بنصِّها المعمَّم بالسَّواد؟

- تقول: «فَمَا لَكُمْ فِي المُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ، وَاللَّـهُ أَرْكَسَهُم بِمَا كَسَبُوا؟ أَتُرِيدُونَ أَن تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّـهُ؟! وَمَن يُضْلِلِ اللَّـهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا. وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا؛ فَتَكُونُونَ سَوَاءً. فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّـهِ. فَإِنْ تَوَلَّوْا، فَخُذُوهُمْ، وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ، وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا. إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ، أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَن يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ. وَلَوْ شَاءَ اللَّـهُ، لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ، فَلَقَاتَلُوكُمْ. فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ، فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ، وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ، فَمَا جَعَلَ اللَّـهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا.» فصاحبك المعمَّم بالسَّواد لا يقرأ النصَّ بتمامه، بل يمارس الاجتزاء، ليزعم ما يزعم. كمنهاج هؤلاء الذين يروِّجون أمثال خطابه. ثم يأتي ليفسِّر «فَإِنْ تَوَلَّوْا» بمعنى: أعرَضوا وفَرُّوا رافضين الإسلام، ليس إلَّا!

[ولمناقشة العمائم السُّود بقايا!]

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الألباني، محمَّد ناصر الدِّين، (1998)، صحيح سُنن أبي داود: للإمام الحافظ سليمان بن الأشعث السجستاني، (الرِّياض: مكتبة المعارف)، 3: 25، (الحديث برقم 4297).

(2) يُنظر: البُخاري، (1981)، صحيح البُخاري، ضبط وتعليق: مصطفى ديب البُغا، (دمشق، بيروت: دار القلم)، (الحديث 6387)، 6: 2485.

(3)  الذُّبياني، النابغة، (1985)، ديوان النابغة الذُّبياني، تحقيق: محمَّد أبي الفضل إبراهيم، (القاهرة: دار المعارف)،  200/ 4.

(4) (1900)، ديوان طَرَفَة بن العَبْد البكري، شرح: يوسف الأعلم الشَّنْتَمَري، عناية: مكس سلغسون،  (شالَوْن- فرنسا: مطبعة برطرند)،  54/ 27.