(...ربما من السهل أن تزرع الورد... لكن ليس من السهل أن تزرع الحب)
للوهلة الأولى، لم أصدق أن الشابة بدور التي كانت تتحدث بصوت عالٍ أمام الجميع بعصبية، هي نفسها التي كنت أعرفها منذ زمن، خجولة وخائفة من أي شيء يقترب منها أو يتحدث إليها. تركت لدي انطباعًا أن شيئًا ما قد تغير في حياتها بعد سنوات من البعد والغربة عنها، التي استمرت لأكثر من أربعين سنة.
بدور، سمراء حنطية البشرة، تجاوز عمرها الأربعين، وهي تشبه والدتها التي أخذت عنها الكثير من الصفات، كالصبر والتحمل للظروف الصعبة والقاسية، إضافة إلى الحيف والظلم كونها امرأة وأم.
تزوجت بدور في سن مبكرة، بعد أن أنهت دراستها الإعدادية وهي في عمر الثمانية عشر عامًا، بطريقة عشائرية تُسمى "الكصة بالكصة"، بعد انتظار طويل ورغبة والدها في تزويجها لابن عمتها، الذي كان أسيرًا في الحرب العراقية الإيرانية وأُفرج عنه في 1991. زوجها كاظم كان يسكن في مدينة البصرة مع عائلته، شاب وسيم ذو بشرة بيضاء وعضلات مفتولة، وعينين واسعتين، يكبرها بأربع سنوات.
كانت بدور فرحة وسعيدة بقدوم زوجها من الأسر بعد أكثر من عشر سنوات من الانتظار، وفي نفس السنة التي أُفرج عنه، تم الزواج. سكنوا في بغداد بعد انتقالهم من البصرة، في بيت صغير مكون من غرفتين، وقبلت بما هو مقسوم لها.
في السنة الأولى للزواج، اهتمت بدور بوضع زوجها النفسي والاقتصادي وطلبت المساعدة من أهلها. كانت قد أحبته كثيرًا وحاولت خدمته بكل طاقتها كزوجة. لكن كاظم كان شخصية غير مبالية بالأمور العائلية، له نزواته الخاصة ويكره الدراسة، وكان يعمل عامل بناء. حصل على راتب شهري كتعويض عن الأسر، بعد جهد كبير.
في السنة الثانية للزواج، أنجبت بدور مولودًا أسمته باقر. فرحت كثيرًا بهذا المولود الذي ملأ قلبها بالسعادة، لكنها بدأت تواجه ظروفًا معيشية صعبة جدًا، خاصة بعد الحصار الاقتصادي على العراق. بدأ زوجها يقلل المصروف على البيت ويهدره على لعب القمار ونزوات أخرى. في السنة الرابعة للزواج، بدأت تدرك بدور حجم المشكلة.
تكلمت معه بخوف، تخبره أن المصروف لا يكفي، وأن لديها طفلًا وهي أيضًا حامل. لكنه كان يهينها ويضربها ويصرخ فيها قائلاً: "إن لم يعجبكِ المصروف، اضربي رأسكِ بالحائط!" زادت المشاكل وتفاقمت، إلى أن علم إخوتها بالأمر وهددوه بالإصلاح أو الانتقال لمكان آخر، لكن زوجها هددهم بالطلاق، وكانت بدور تردد قائلة: "اتركونا بحالنا."
انتقلوا إلى البصرة في السنة الرابعة للزواج، واستقروا في نفس المحلة التي يعيش فيها أهل زوجها. أنجبت بدور ثلاث أطفال: باقر، بتول، وسجاد. كانت بدور تصرخ بين حين وآخر: "ظلمني وشفت العذاب اللي محد شافه... يا فرحة اللي ما تمت من يوم اللي رجع زوجي من الأسر."
لم تفقد بدور الأمل في تغيير الحال، خاصة بعدما أصبحت قريبة من أهل زوجها. لكنها تفاجأت بأن الأمور ساءت أكثر، إذ بدأ زوجها يتعاطى المخدرات بالإضافة إلى القمار. لم تستطع مواجهة زوجها مباشرة لأنها كانت تخافه، لكنها حاولت من خلال الأقارب إبعاده عن المخدرات، ولكن دون جدوى.
في السنة الرابعة، أنجبت بدور طفلة أسمتها معصومة. بدأ الخوف يتسلل إلى قلبها على أبنائها، وكانت تخجل من تصرفات زوجها أمام الجيران. فكرت مليًا بالأمر وقررت الرحيل إلى الديوانية، مدينة بائسة يُضرب بها المثل في الفقر. استأجرت بدور بيتًا صغيرًا مكونًا من غرفتين، وبدأت تعمل كحفافة، على الرغم من شعورها بالخجل بسبب هذه المهنة غير المقبولة اجتماعيًا، لكنها كانت مضطرة لمساعدة أبنائها.
الابن الأكبر، باقر، دخل الجيش كمتطوع بعد إنهاء الدراسة المتوسطة، وكان يساعد والدته في مصاريف البيت، في حين أنهت معصومة دراستها الابتدائية وتساعد والدتها في الأعمال المنزلية. زوجت بدور ابنتها بتول لابن أخت زوجها الذي يسكن في البصرة، لتطمئن عليها وتخفف من الأعباء المعيشية.
أما سجاد، الابن الأصغر، لم يكن يحب الدراسة وعمل كعامل. كان يطلب المال دائمًا من والدته ويهددها إذا لم تعطه، وقالت: "هذا الولد معذبني، مأخذ شمرت أبوه."
استمرت بدور في عملها كحفافة في الديوانية، وتدريجيًا تحسن وضعها المعيشي قليلاً مع مساعدة ابنها باقر. لكن، مع ذلك، كان زوجها يأخذ الكثير من المال الذي تكسبه ويترك لها القليل فقط لشراء الطعام. في اليوم التالي، كان سجاد يأتي ويطلب المال بعصبية، وعندما لاحظت احمرار عينيه، سألت نفسها: "كنت في مصيبة، والآن صرت في اثنتين."
ذات يوم، وبينما كانت مشغولة مع إحدى النساء، سمعت ابنها سجاد يصرخ: "أبويه ما عاد يتنفس... أبويه ماااات!" لم تكن حزينة أو سعيدة لموته، لكنها احتضنت ابنها وقالت له: "البقاء في حياتك... هذه فرصتك الجديدة لتساعد نفسك وأمك."
_------------------------------------
حكاية واقعية (الأسماء ليست حقيقية).
احترام كبير لجميع الاسرى.،بالطبع ليس كل مصير الاسرى متشابه*
كان ابو ادم في زيارة الى العراق سنة 2021*
كان تبادل الاسراء بين العراق وإيران على مراحل...بعد انتهاء الحرب