حميد الحريزي في درامته الثورية الشجاعة عن إنتفاضة تشرين في النجف الأشرف والموسومة ( البركان ) ، وهي من جنس الرواية القصيرة ، وكإنه يقول لنا بشكل ساخر : لقد منّ الله علينا في هذا البلد بثلاث : حرية التعبير وحرية التفكيربينما لا نملك المقدرة على تطبيق أي منهما . فما فائدة حرية التعبير المنصوص عليها في الدستور طالما ينتظرك الكاتم . حميد الحريزي كتب هذه الجدارية السردية المكثفة والهائلة بمعانيها وهو يعيش الأحداث بتفاصيلها الصغيرة والكبيرة ولذلك كان هو أحد أبطال الرواية وهو نفسه شاهد عل كل أحداثها فجاء الروي متناسقا جذابا ثوريا ودرامياً مختصراً ودامياً بذات الوقت . أضف الى ذلك كانت الأحداث تتصف بالحزن والدمع بسبب ماسقط من شهداء وجرحى كانوا في ريعان صباهم والمفروض أن يكونوا قد استمتعوا في الحياة الحرة الكريمة لكنهم إنتهوا الى الفناء والى العميق بسبب طغمة سياسية تمسكت بثوابتها المقيتة وسحقت كل نفسٍ حيّة أرادت الإستمرار بحقها المشروع في جمال الحياة ومتطلباتها في الحب والديمومة والرخاء . هؤلاء الشباب الذين سقطوا في ثورة تشرين منذا العام 2019 أرادوا تحرير الفقير من أغلاله وأرادوا أيضا تحرير حتى أصحاب الميليشيات المغرّر بهم بشعارات الدين والخرافة ولكن كمن يقول ( يصعب تحرير الحمقى من أغلاللهم ) ، ولذلك من الضرورات الملحة أن يمتلك الإنسان إرادة حرة تصل به الى الإنعتاق من فكرة تعاليم الدين المسيّس أو حتى من الأله الرابض في صومعته بلافائدة تذكر سوى هيولهِ الذي يصبح قطباً للقتال والمناكفة والتناحر ومامن حلولٍ في الآفق الدامي .

الشهداء الذين رحلوا في الإنتفاضة لايهمهم شيء سوى الوطن ولايهمهم إذا ماتوا وغادروا الحياة وأعطوا ماتبقى من أعمارهم الى الباقين كنذرِ أو رمز يعلّق في ستار المخيمات أو يكتب على الحيطان النجفية وأزقتها المترامية القديمة والحديثة ، الشباب الذي رحلوا في الإنتفاضة كانوا يعرفون سبب رحيلهم فيما إذا رحلوا ولذلك كانوا ابطالا شجعانا لاتهمهم المغريات ولا النفائس وسرقة صندوق الشعب كما يفعلها السياسيون اليوم ، رحلوا على غرار ما قاله الكاتب الشهير غسان كنفاني ( لاتسأل راحلاً عن سبب رحيله ، لانه جهز عذره قبل رحيله ) .

رواية ( البركان) كما قلت هي من جنس الرواية القصيرة. وهذا الجنس من الروي يختلف إختلافا كليا عن الرواية المعتادة فهي لاتهتم بتفاصيل الوصف الخارجي والداخلي أو وصف الطبيعة والأمكنة كما في الرواية المعتادة فهي سريعة القراءة كما أزماننا هذه التي يتماثل بها التسارع في كل شيء . الرواية أرخّت كل الفواصل التي مرت بها ثورة تشرين النجفية ومن ثم توسعت الى تشرين في كافة أرجاء البلد عدا مناطق كردستان والمناطق الغربية وهذه لها أسبابها وقد وضحتها البانوراما الدرامية في عدد من صفحاتها وأوضحت سبب عدم مشاركة هذه المناطق من خلال النقاش الدائر بين المنتفضين وقادتهم .

الرواية كان لها بطلاً وهو ( مصطفى) يأتي الى حميد الحريزي كاتب الرواية ويقول له أنا قرأت روايتك (الثلاثية) القديمة وأبكتني الشخصية المحورية بها ( مظلوم) وتلك الرواية كانت تتحدث عن الشيوعيين ونضال الفلاحين أنذاك ضد الإقطاع في أيام زمان مضى . كان مصطفى بطل رواية ( البركان ) شابا من أبطال الإنتفاضة ، فهنا حميد يريد أن يقول لنا مامدى تأثير ما نكتبه على الشباب وفي جعلهم في طاقتهم وعنفوانهم الثوري مثلما كنا سابقا في ذلك الجيل السبعيني والستيني حيث كنا نقرأ ( رواية العقب الحديدية لجاك لندن) أو (رواية الأم لمكسيم غوركي ) تلك الروايات التي أنشأت جيلا ثوريا قل نظيره في مقارعة الطغاة بشكل عام والبعث بشكل خاص . رواية حميد تناوت الجانب التأريخي للعراق وكل المآلات السياسية التي وصلنا اليها الآن ، تناولت في مجمل حواراتها كيف كان الشيوعييون وماتعرضوا له من قمع تحت رايات رجال الدين منذ ذلك الوقت الذي أفتى به رجل الدين المعروف بفتواه البغيضة ( الشيوعية كفر وإلحاد) بينما الشيوعيون يتعرضون لأبشع أنواع التعذيب بسياط جلادي البعث فكانت تلك الفتوى حماية للبعثيين . فأي فتوى هذه التي تساند المجرم وتعارض الثوري المناضل ولازالوا حتى هذا اليوم بفتواهم يناصرون الظالم على حساب الفقراء والمعدمين بحجة أن الثوار كفرة خارجين عن دينهم وطائفتهم فخلق مجتمعا طائفيا عرقيا تحت راية الدين المزيف وخزعبلات رجالاته . ومن بين كل هذا الألم المتصاعد تبرز الشبيبة بكل طاقاتها لتحتشد وتنتفض ضد القمع الكهنوتي المنظم ، فيبدأ مصطفى بطل الرواية بصحبة أصدقاءه بالإنتفاضة التشرينية التي لابد منها . وكانت شراراتها الأولى في 5/ إكتوبر/ 2019 عبارة عن تظاهرة هنا وهناك حتى كبرت في رفع شعاراتها ( بإسم الدين باكونة الحرامية ) ثم شعار ( الشعب يريد إسقاط النظام ) . حتى بدأوا بنصب خيامهم في الساحات الشهيرة في النجف وأول خيمة في ساحة الصدرين . وقد ضمت العديد من المخيمات وبلغت ( 291) خيمة ومنها خيمة للفلاحين ، خيمة لذوي المهن الصحية ، خيمة للأدباء ، خيمة للشيوعيين ، وخيمة للنساء بقيادة الناشطة ( سهاد الخطيب ) وخيمة للموظفين وغيرها من كافة شرائح المجتمع . كبرت الإنتفاضة وتنظمت نوعا ما رغم انها تفتقد للقيادة الحقيقية وأصبحت تخيف السلطة ، حتى بدأت الميليشيات التابعة للآحزاب تتغلغل بينهم بإمرأة رجالات السلطة كي تسحق المنتفضين بشتى الوسائل ، فدخلت بسكاكينها وأسلحتها النارية وبدأت بالتصفيات بينما رئيس الدولة أنذاك (الكاظمي) وقبله عادل عبد المهدي صامتون ماعدا أراءهم هنا وهناك من أنهم الراعي والداعم الأول لكل متطلبات الثوار المنتقضين وشعاراتهم ومن أنهم سيحاسبون الميليشيات والمندسّين ومن ورائهم ولكن كل كلامهم ذهب أدراج النسيان وبقيت الميليشيات تقتل وتجرح وتختطف الشباب حتى وصل بهم الأمر حسبما تقول الرواية الى اغتصاب عدد من الشباب والإعتداء عليهم جنسيا بكل وقاحة وصفاقة ودون أدنى رادع . إستشهد عدد من المنتفضين ومنهم (وعد صالح الغزالي) في عام 2019 وقبله في العام 2017 استشهد (علي هاتف الشبلاوي) بسبب المظاهرة ضد إنقطاع الكهرباء والجوع والبطالة المتفاقمة . وبسبب الهجمة الشرسة وقمع ثوار الإنتفاضة توقفت لفترة ولكنها عاودت نشاطها حتى في زمن وباء الكورونا . حتى وصل الأمر بتجريف كل المخيمات بالشفلات وبعض وسائل التجريف وانتهت وسحقت وبقي من آثارها سوى الآطلال . وذات يوم يمر كل من الثائر (يوسف) والثائرة (شفاء) على الساحة ويذكروها بألم وحزنٍ عميقين حيث لم يتبق منها سوى أنفاسهم وبعض العصافير التي تمرعليها وتلتقط العيدان وتطير وكإنها ترسم الأمل والعودة من جديد لإشعال الثورة من رمادها المتبقي في أرواح الشهداء . في الاسبوع الثاني من التجريف يتم خطبة الرفيقين يوسف وشفاء حيث خطبوها من ابيها المناضل والثوري ومن ثم زواجهما الذي يكلل بتوأمين ( ثائر) و( أمل) وهنا إشارة بارعة جدا من قبل الروائي حميد من أن الإنتفاضة ستعود ذات يوم ولايمكن لأحد إيقافها لآن الآناشيد هي التي تبقى وتزول كل مجنزراتهم . ومانراه اليوم يثبت ذلك حيث لازالت الناصرية اليوم بكل إحتجاجاتها وثوريتها وشبيبتها تطالب بما كان يناشد به الشهداء في ثورة تشرين . ومن المهمات الضرورية التي وثقها حميد الحريزي في الرواية هو أنه ذكر عدد الشهداء بالأسماء الصريحة الذين سقطوا في النجف الأشرف وكان عددهم 42 شهيد بين عام 2019 حتى عام 2020 وهذا عمل شاق من قبل حميد حيث يتطلب الأمر الدقة المتناهية والبحث الحقيقي حول كل من سالت دماءهم فبقوا فخراً وإعتزازا على مدى الدهور . وتبقى الدماء تنزف طالما هناك فقر وجوع ويبقى الوضع غير آمنا مثلما قالتها المافية الإيطالية (إذا لم يتوفر الخبز للفقراء سوف لن يتوفر الأمن للأغنياء ) وكان هذا في أحد الأفلام التشويقية والجرائم ضد الإنسانية والموسوم ( رحلة حبي في عالم العصابات ) . الرواية أيضا تعطينا إنطباعا فلسفيا مفاده : إذا إستمرت الطغمة الحاكمة في الظلم فلسوف ينتج لنا مجتمعا معقدا مجتمعا يحاول الركض نحو العيش بأبشع الطرق ومنها سوف ينتج مجتمعا ذئبياً مفترسا لأن المرء سوف يفكر من أنه الأفضل أن يعيش ذئباً سنة واحدة ولايعيش عشرين عاماً كما سلحفاة . وهذه حصلت في الكثير من البلدان لكنها تجاوزت هذا المآل بعد سقوط آلاف من الضحايا بسبب اٌلإقتتال الذي كان من الممكن إيقافه ولكن هكذا حال الإنسانية حين تتعرض للنكوص ولات ساعة مندمِ .

وفي الأخير أقول من خلال الروي الفني وإيقاعه وتشكيلته وسرديته التي تناولت الحقائق بلا رموز أو رتوش ، الروي الذي تجاوز في شروحاته ، حتى أصبح بإمكانه أن يُحزن القلوب الحرة التواقة للمعرفة بكل صفائها ونقائها حتى يجعلها الشاهد العصري لهذه الثورة النازفة حتى هذا اليوم فأقول : الشباب الذين استشهدوا في انتفاضة تشرين وغادروا أخوتهم واحبتهم وآبائهم ، استشهدوا ودفنوا تحت الثرى لكنهم ماتوا تحت طائلة القول الجميل الذي يُبقي الميت حياً بين ظهرانينا ( نحن لانموت حين نفقد من نحب وانما فقط نحن نكمل الحياة بقلب ميت ) .

هاتف بشبوش/ شاعر وناقد عراقي