سكبتْ آخر قطرات من الماء في قدر كبير لثمانية افواه، السِنة النار أكلت ماتبقى من شجرة السدر التي احتطبوها من حديقة الدار، والتي اسدلت الروح بفعل شظية قذيفة مدفع اصابت اسفل جذعها .
بدأ الماء يغلي، اضافت بعضا ً من البصل وملعقة طعام من معجون الطماطم، بيدها الاخرى حركت محتويات القدر بملعقة كبيرة، ثم اضافت قطعا ً من الخبز اليابس لتصطبغ باللون الأحمر ، سكبت بعضا ً من الطعام في اناء كبير، تحلّق الاطفال حولها يلتهمون الحساء بتوتر وعراك لاينتهي. التفتت الى زوجها قائلةً:
ـ عليك الذهاب الى النهر لجلب الماء.
ـ كيف سأصل والنهر بعيد..!؟
ـ الاطفال عطشى.
ـ القذائف تنهمر على المدينة.
ـ لقد تعودنا.
ـ الخروج يعني الموت !
ـ ليس لدي ماء لعمل الحليب .
خرج حاملا سطلا ًفارغا ًوهو يتمتم بعصبية وبكلمات غير مفهومة تشبه الهذيان، سارَ في الزقاق ببطء متخذا ًمن الجدران المتشققة حاجزا ًترابيا ً، وحشة المكان زادت من توتره، سَمعَ ازيز قذيفة مرت من فوقه، كوّرَ جسده كالقنفذ الى اسفل جدار، مرّ بقربه كلب يركض مرعوبا ً، العصافير تطايرت بأتجاهات مختلفة كأنها شظايا، سمع صوت الانفجار البعيد نسبيا ً.
ـ سقطت في البصرة القديمة.
ردد مع نفسه مُشجعا ً وحمل جسده على قدميه المرتعشتين، خرج من بين الازقة الى الشارع العام مهرولا ً، هبط الى اسفل النهر فغاصت قدماه في الطين المتعفن، مَلأ السطل بماءٍ اخضرٍ قاتم، دفع ثقل السطل قدمية اعمق في الطين، سحب جسده بصعوبة من مصيدة النهر، تركت قدماه رسوما ً تجريدية ًعلى اسفلت الطريق، عيناه مشدودتان الى السماء، خيط ماء متعرج يرسم أثرا ًخلفه، دفع باب الدار وهو يشعر بخفة في وزنه.
صرخت زوجته:
ـ أين الماء ..!؟
ـ ..............!؟
نظر بعينين مرعوبتين الى السطل، فرأى آخر قطرة تسقط من ثقب في القعر.
ـ الاطفال يصرخون عطشى.
تملكه الغضب وصرخ:
ـ الى الجحيم..
ـ يجب ان تأتي بالماء.
ـ لن اذهب..
ـ لماذا..!؟
ـ كُدتُ اموت.
ـ أي رجل أنت..!؟
ـ أنتِ عاهرة........
اختلط صراخهما ببكاء الاطفال، مشهد هستيري طغى على ازيز قذيفة اخرى، خطفت يده سكينةً لتنغرس تحت نهدها الذابل، صرخت وارتمت الى الخلف، تمدد جسدها الى جانب رضيعها، التقت عيناها بعينيه المتوسلتين،
تناولت رضّاعته الفارغة، ووضعتها تحت الجرح الأحمر النازف وهي تكتم آلامَها، هدأ الرضيع وهو يشعر بدفء وحنان أمه وهو يتدفق الى عروقه اليابسة.
عبد الرضا المادح
2010.01.26
البصرة