أصبح ذلك الحريق المتكرر في الغرفة نفسها في ذلك البيت لغزاً يشغل رجال ونساء المحلة الشعبية المكتظة بالبيوت الصغيرة المساحة، في إحدى ضواحي بغداد، وتتزايد مخاوفهم من امتداد الحريق إلى الأسلاك الكهربائية المغذية لتلك البيوت.

أٌطفئَ الحريق الرابع من نوعه، بعد  تمكّن أحد رجال المحلة من الاتصال بفرق الدفاع المدني. وصلتِ السيارة بصفارة نذير شؤمها، وباشر رجال الإطفاء بمد أنبوب المياه لمسافة طويلة، إذ عليهم أن يتسلقوا سلم البيت إلى الغرفة في الطابق الثاني، التي حدث فيها الحريق.. ازداد تجمع الناس لاعتقادهم بأنه حريق كبير طالما أن سيارة الإطفاء قد حضرت بسرعة.

كثر اللغط بشأن أسبابه، بعضهم عدّ البيت مشؤوماً، وآخرون عدّوه مسكوناً، وفريق ثالث تمثله بعض نساء المحلة، يتحدثن عن أسباب لم يشارك أزواجهن في تصديقها، تتعلق بالعائلة الساكنة في البيت ومشاكلها.

البيت يسكن فيه الآن الجد والجدة وثلاثة أبناء أكبرهم طلّق زوجته وله منها ابنتان.

بعد أن كثر الحديث عن البيت وشؤمه، قرر العجوز وأبناؤه بيعه، حتى وان كان السعر أقل من السوق. وبعد أن ُسمع خبر عرض البيت للبيع، حدث حريق خامس  في الغرفة العلوية ذاتها، أطفئ سريعاً، فخفض أهل البيت سعره مرة ثانية،  فتمت صفقة البيع، كذلك صفقة شراء العائلة بيتاً في منطقة بعيدة نسبياً، فكان سعره المنخفض ملائماً للعائلة ومتوافقاً مع حسابات الابن الأكبر في الزواج مرة ثانية في البيت الجديد.

لم تمض ثلاثة أيام منذ أن استقرت العائلة في البيت الثاني، حتى شبّ حريق، في الغرفة التي احتلها الزوج، وكانت أرضية هذه المرة، وفيها بعض متطلبات الزواج. أيضا أسرعوا في استدعاء سيارة الإطفاء...

تكاثرت علامات الاستفهام لدى الأب ومن ثم بقية أفراد العائلة، خاصة الجد والجدة.. إلى من توجه أصابع الاتهام؟ الأب أجاب.. بأن هناك من يعرقل مسألة زواجه.. ولا يريده أن يتم.. وإذا كان قد أخذ موافقة أبيه وأمه مسبقاً، فقرر جمع أخويه وابنتيه، ليسألهما إن كان لديهم اعتراض، الأخوان كانا موافقين، لأن هذا          سيسهل أمر زواجهما تباعاً، أما البنتان الكبرى أحد عشر عاماً والصغرى تسعة أعوام، وافقتا خوفاً من شكوك والدهما بشأن لغز الحريق.

مع هذه الموافقات، ظل الأب بين نارين، أما أن يبطل مشروع الزواج أو  أن يستمر فيه. المرأة التي هي من بعض معارفه، وقع نظره عليها مرة، وشغفته حباً، فضلاً عن أنها تريد أن تتزوجه، وإن كان متزوجاً من قبل، تريد أن تجرب دنيا جديدة. تسر بأسرارها إلى أمها التي تتفهمها، خوفاً من أن يمر قطار الزوجية وتظل  تلهث خلفه، من دون اللحاق به يوماً. كانت أم الفتاة تبعث برسائل إلى قريبات الأب من خالات وعمات.  هذه الرسائل تغمر الأب بالغرور وتحفزه على تجربة زواج مع فتاة ترغب به، وتؤلبه  على مخاوفه من قصة الحريق المتكرر، ولكنها لم  تقص تفكيره بابنتيه، وماذا يتوقع أن تكون وجهتا نظريهما غير المعلنتين.

لقد كبرت أمه كثيراً ووطأها مسلسل أمراض الشيخوخة، ومن ثم  يجب أن تتوفر في البيت امرأة شابة ترعاهما، ولكنه لم يتعود أن يجتمع بابنتيه ليوضح لهما الأمور.

كانت ابنته الكبيرة تعاني، ولكنها لا تكشف عما تفكّر فيه، الأمر كما يدور بخلدها كالتالي: أمها تطلّقت من أبيها، وتزوجت رجلاً آخر تهواه، إذن الأم تخلت عنها وعن أختها لصالح حياتها هي. أبوها الآن يريد أن يتزوج من امرأة يودّها، إذن هو أيضا يتخلى عن ابنتيه انتقاماً من أمهما التي فضلت عليه شخصاً آخر.

هما منبوذتان من أبيهما وأمهما، ماذا تفعل  كي تعطل الأمور، وتحسسهما بالخطر المقبل، خطر ضياعهما هما؟!

تكاد تختنق من لهيبٍ مستعرٍ في داخلها، تحاول أن تنفّس عنه، أصبحت حزينة، غريبة الأطوار، تكاد تعجب من تصرفاتها، لقد كبرت أعواماً، بفعل نمو طاقة غريبة لعمل الشر في داخلها.

منذ الأيام الأولى بعد حفلة زواج متواضعة، بسبب تداعيات أحداث الحريق المتكرر، بدأ عدم الارتياح المتبادل بين الزوجة الجديدة والابنة الكبيرة خاصة، تسري ملامحه الكئيبة في البيت، فقد افتعلته الزوجة أولاً، ولكن من  دون دلائل، فالابنة حاولت ضبط إيقاع تصرفاتها وردود أفعالها كي لا تتهم بافتعال المشاكل.                                                                                

الزوجة تغمغم في رأس زوجها محرضةً إياه على ابنته الكبيرة التي يحبها ويصفها بالنادرة، كدلالة شعبية على قدرتها في  أخذ زمام المبادرة في بعض شؤون البيت. تحاول إقناعه بأن تتولى زوجته القديمة جزءاً من مسؤولية البنتين، كي تبقيا لفترة زمنية لديها. حاول إقناع أمه العجوز بإرسال البنتين إلى أمهما فترة من الزمن، لكن الجدة استثقلت الفكرة ووافقها الجد في ذلك، فسعى ابنهما إلى محاولة إقناعها بكل قوة، فأذعنت الأم لإلحاح ابنها فذهبت لتستطلع الأمر، ورجعت خائبة بعد هبّة كبيرة من زوج أم البنتين:

- نحن لا نستطيع تدبير يومنا، تأتين أنت لتضيفي عليّ فمين آخرين، اذهبي، وقولي للأب الفاشل، البنتان تحملان اسمك وليس اسمي.

سمعت البنتان من خلف جدار غرفة كان يجتمع بها الجدان والزوجان كل هذا الذي روته العجوز.

وكان رد فعل الزوجة مكظوماً إلى أن تختلي بزوجها في غرفة النوم. ذهبا بعدما افتعلا نعاسهما. حاول الزوج الجديد جعل الأمور طبيعية وأن ردة فعل زوج أم البنتين من حقه. حاول الاقتراب منها فصدته:

- أما أنا أو هما، قرر مصيرك، استأجر لي بيتاً، وهما تبقيان عند جديهما. أفضل حل هو هذا.                        

أيضا  كانت هناك أربعة آذان خلف جدار غرفة النوم. سمعتا ما صدمهما وبالأخص البنت الكبيرة، تهامستا قبل الذهاب إلى غرفة نومهما المشتركة مع جديهما، في البيت المكون من ثلاث غرف نوم، يشغل الثالثة الأخوان.

لم تنم الكبيرة، بقيت تتقلب في فراشها إلى أن بدأ النوم يغالب الجميع، وهي التي لم ترد أن يسلطن عليها.

نهضت من فراشها بهدوء على أطراف قدميها تمشي، ومضت إلى المطبخ متناولة القداحة مشعلة إياها، مع حركة الاشتعال، صرخت بأعلى صوتها: سأحرق نفسي، أريد أن أموت، لا أمنا تريدنا ولا أبونا يؤوينا.

مع الصراخ واحتراق ملابس الفتاة الصغيرة، هبّ الجميع مذعورين لإطفاء حريق البنت بوساطة دوارق الماء، وأسرعت بها الجدة إلى الحمام بفتح الدوش وخلع ملابسها بحركتين متزامنتين. آخر من استيقظ الأب وزوجته، استفسرا عما حدث،                                           

وحين شرحوا لهما ما حدث جلسا مبهوتين وأصابع اتهام موجهة نحو الزوجة. الجد الذي دب فيه النشاط إزاء صدمة الحريق، أمر الجدة:

-إلبسيها ملابس جديدة كي  آخذها إلى المستشفى..

صارخاً بالزوجة:

- أنت التي ستخرجين. كله بسببك مذ أن فكر ابننا الكبير الزواج منك، سلبتِ عقله، دمرتِ أبوته. أنتِ شيطان خفي يوسوس للفتاة البريئة، كي تشعل الحرائق.

وسط صمت رهيب بادر الأخوان إلى أخذها للمستشفى، فيما انسلت الزوجة إلى غرفتها صاغرة، بعد أن اتقدت عيون أفراد الأسرة كلهم مصابيح اتهام لها.

حمل العمّان الفتاة كي يستأجرا مركبة تقلهم إلى المستشفى لمعالجة الحروق، فيما كان خيط ابتسامة نصر لاح على شفتي الفتاة.

* أديب وناقد عراقي