يختنق أثاث الغرفة من سطوة ليلٍ شديد العتمة، لكنه يتنحّى قليلاً عن فسحة الوجه المبتسم في صورة جدارية، على الجهة المقابلة لسرير الزوجين. حين يلتهب الصهيل وتذوب المسافات، تطلُّ عيناه الصقريَّتان على مشهد الحرث، فتلملم الزوجة عريها، وتقذف السؤال الأليم: ما الذي حول ابتسامة الصورة إلى غيمة باردة؟.
كان الزوج الجديد يهذي عن تراكم الأشياء في الغرفة، كما لو أنها تتحرك فتجثم عليهما وهما نائمان، غيَّر جنبه متمنياً أن تغفل الأشياء عنه مدة من الوقت كي ينام، لكن الزوجة ظلّت مستيقظةً، تنظر صوب الغيمة.. تمطر أم لا؟ وماذا ستمطر.. العتاب أم دمعة الرضا؟.
كانت فيما مضى صحراء من الوجع الأسمر افتتحها رجل الارتواء، ابن عمها ذو الملامح الدافئة، كان عرسهما بسيطاً شذّب الأيام الفواصل وجفّف صبر الليالي المدلهمّة بالتوقعات، كانت مخاوفهما تتبرعم في لحظات الحب والفراق...حتى غدت شجرة سمِّيَّة آكلةً لهواء الأمل وزافرة لسكرات الموت/ الكابوس الذي يرشح من ذبالة أفكارها قبل النوم
- لستُ خائنة.. لستُ خائنة
صرختِ المرأة رافعةً رأسها من الوسادة ببطء، كان شبح الصورة مازال يكتم أنفاسها، متحسسةً جيدها المتيبس بيديها الراعشتين، اتخذت وضع الجلوس، وكذلك زوجها الذي استغرب أمر زوجته. سألها عما بها، كانت الدموع الغزيرة تعيق رؤية الأشياء بوضوح لديها، فردّت مرتبكة: لا شيء، فردَّ عليها: كيف لا شيء..؟! وفي الأمر خيانة.
انتهك قوله رغبتها في الحياة وتجمّعت بسرعة غيوم الندم في عينيها على أشياء كثيرة، نقمت على مشاعيَّتها.. كان استشهاد أخيه زوجها الأول فأساً احتطبت ثمرة حياتها، ظلّت محطمة طيلة أشهر الحداد، عيناها تبرقان إلى المجهول، إلى طفليها، اللذين ولدا خلال سنوات الحرب. (جنرالاتها اشتروه مني بثمن بخس (سيارة وقطعة أرض وحفنة نقود) ما أثار أطماع أهل زوجي (أعمامي)، التي تخفَّت تحت ستر التباكي على الطفلين، وعلى شبابي الذي سيذبل، والجنائني (الأخ الأكبر للشهيد) رهن إشارتي ليغرسني مرة أخرى في روضة الزواج، لكنه جنديٌّ أيضا،
ولم يتزوج طيلة هذه المدة، لهذا السبب، فهل تزوجتُ الحرب أيضاً؟. لم تنفع الاعتراضات أمام إرادة أهلي وأعمامي، لم يتغير أي شيء، أثاث غرفتنا، صورة الزوج القديم، التي هبطت من عليائها هذه الليلة.. اقتراب روحه الهائمة أثقل جسدي.. تترَّب وتشقَّق، واتّسعت حفرة ذات قرارٍ يتيح لها أن تبتلعني، كان فماً من روح تتكلَّم بهمس العتاب. تتهيكل الروح مرة أخرى على شكل يدين تضغطانني وتدسّانني في حفرة مظلمة تحت سريري..). صرختْ:
- لا تتّهمْني.. هل تستطيع ردَّ الكوابيس إذا أتتك، إنه أخوك جثم على صدري.
تضرّجت نار الدم في وجهه، واستدار بجسده المتسربل بمنامة رمادية اللون إلى الجهة الأخرى. عيناه تنظران إلى النافذة المسدلة الستائر (متى يطلع الفجر، لن أنام، إنه يقاسمني زوجتي، يجعلني أفكر بالمشكلة، هناك اعتدنا على عادة ذميمة! على مرأى الجثث المحترقة، واستمرار القتال قرب أصدقائنا، الذين أصبحوا أشلاءً مبعثرة. هل عليَّ أن اعتاد، هذا الأمر المعذِّب أيضاً، أخي الراحل يقاسمني زوجتي.. كيف.. سأموت من التفكير الممضِّ هذا).
اقتحمت طلائع الشمس الغرفة المكدَّرة الأجواء، مازالت زوجته نائمة، قام برفع الصورة من الجدار حاملاً إياها خارج المكان، فكّر أن يعلّقها في غرفة الضيوف، واستدرك بصوت خافت: سيبقى ضيفاً أيضاً، ربما سأرميها، إنه غريمي وليس أخي الآن. ناور التفكير بالأمر، بتعليق صورةٍ شخصيةٍ له التقطها له مصور المدينة حديثاً، صورة المبتسم المكابر، في مكان صورة أخيه بالضبط. وكالمتوّج وساماً، دخل مواجهاً بابتسامة زوجته الجالسة تنظر صوب الحائط والصورة الجديدة.
قالت: إنها صورة أخيك الراحل، له مكانته مهما كان
فتفوَّهَ: إنسي حبّكما القديم
لم ترد عليه، (لقد تمادى.. إنه أصغر مما أعرف، أبهذه السهولة ننسى الأموات الأبرياء).. قطع سهومَها تذكرُها أمر التحاقه إلى الجبهة اليوم حتماً، سألته عن ذلك، فثار بصفعة على وجه طفلها المقبل إليها حيث ينام مبعداً مع أخيه قرب عمتهما.
إمتزج بكاء الطفل عالياً مع نحيب أمه مطلقة تفوّهات الثورة على خطأ زواجها الثاني.. ماذا تفعل حلاً لهذا المأزق، وليست هناك نقطة ضوء في أفقٍ غزير السّواد. كانت عودته الليلية منذ خروجه المبكر صباحاً هروباً آخر. المرأة تتهيأ للنوم،
مصطنعة انتظاره، دخل مخموراً ومتعباً، ما منحها العذر في أن تعيق رغبته المتوثبة في إزاحة مسافات الخلاف التي تشاركهما الفراش. عيناه أيقنتا ذلك، فتوَّقدتا احمراراً، وتمتم بصوت خفيض: غداً لن أذهب إلى الموت.. ربما بعد غد.
إنبعثت مسافة خلاف جديدة، وباعدتهما كلاً في اتجاه. عينا أفكارها تنظران صوب مأزق الهروب وعسس المدينة التي خلت من الرجال، فهم يملؤون جبهات الحرب على امتداد حدودنا الشرقية.
مع انشداهها بأفكار مؤرقة انبسطت هيأتها على الظهر، كأنما تستعد لاحتضان فكرة أخرى.. فكرة من روح أبزغت الورم الدفين من قلبها، شبّت يداه بنور حزين يبصم عقوق النسيان على كتفيها ورقبتها، فصرخت:
- لستُ بخائنة، أقسم لك لستُ بخائنة.
كأنّ هذا الكلام الموجه لروح أخيه جعل الزوج ينغمر في كهوف هوائية يكتظّ بها هواء الغرفة الخانق.
لم يتح الموت لأخيه الغريم أن يخرج مسرح الحياة القصيرة أكثر مما ينبغي. درس الأدب المسرحي، وشغف بهاملت الفارس، الذي لم يترجّل من جواد كينونته بعد.
هاملت الجديد ترابيُّ الملامح في صورة سرعان ما اقتلعت من شجرة القلب إلى مباءة النسيان.
يتقمّص الآن الكابوس الجاثم، لا الحلم الذائب في حدائق النوم، ويختزل سورة روحه في بلورة الهجاء الحادة الأطياف لا مدائح جنة الخلد ومواعيدها الأسطورية، تتخيله يخاطبها (فرّت روحي من صراخها المعطوب، لكنني أستعذب محاولات يائسة، أرقب، عن بُعد، أضحوكة أيامكِ، أين تتلوّى).
واجه وزوجته صورته الجديدة المبتسمة بتصنُّع، وخلاف ما أعلن عن عزمه عدم الالتحاق إلى الجبهة، غيَّر أمره إلى السفر غداً.. وكانت عيناه تبثان أمواج الشهوة اللاهبة، ففهمت المغزى، ومضت تعدُّ عشاء الليلة، التي استغرقا دقائقها بأطايب الحلم المحلاّة بأطفال قادمين.
في كل مرة يلتحق بها إلى الجبهة، تتقافز احتمالات الموت. يدخل وجنود وحدته في معارك ضارية، كان ينجو بصعوبة فيها، لكنه لا يعرف في أيٍّ منها سيموت. تأملاته الطويلة هذه خفَّفت تحركاته وأطالت صمته (لن يصدقني أحد هنا في الموضع الشقي، الذي يرشقنا بغبار الكآبة، عن روح أخي المتحفّزة خلف صورته،
حين يسطو الليل.. يقضمون أجنحة كلامي بالتعليقات والضحكات، لذلك أتداول همِّي مع نفسي).
هجوم جديد وترقّب للموت في كل ثانية، لا إجازات حتى ينتهي الهجوم، الذي ألبس الجنود سمات الوجوم والقلق رغم محاولات ترشيقها بالطرائف والمقالب فيما بينهم، فعجلة الحياة بأبأس صورها تفترس الأيام (حان موعد إجازتي.. ولم يبدأ الهجوم بعد، أفكّر كثيراً هذه المرة، الوساوس فتَّت صدري.. إن بعض الظن إثم، أخشى أن أموت، سيتزوّجها أخونا الأصغر) ضحك لهذه الفكرة، وقد اشتدَّ القصف المدفعي، إنها إشارة البدء...(كلا لن أموت، سأخرج مع سيارة التموين، سأتّفق مع السائق.. ولكن مفرزة الإعدامات، يا للموت، في كل مكانٍ، حتى في غرفتي، قرّرت الهرب، وليحدث ما يحدث).
قطعت السيارة مسافة ليست بالقليلة حين خرج جنودٌ ملثمون من سقيفة مهجورة. لم يستوعب هو والسائق الرعب الكامن فيهما، قبل أن يقول لهما أحد الجنود شاهري الأسلحة: قفا أيها الجبانان وانزلا!
كانت المرأة تنتظر عودته، لقد تأخّر كثيراً، انتهكت الروح المجنونة (هاملت) كيانها فصُعقتْ، خاطبت الصورة الجديدة للغائب المنتظر كي تعيد لها الأمان الداخلي.. بدون جدوى. هذه الليلة ليست كباقي الليالي، الرعد شديدٌ، الستائر تتحرّك. أمست الغرفة بحيرةً تعوم فيها الأشباح.. الصورة الجديدة تتحرّك.. من خلفها؟ تتساءل، لم تكتمل أسئلتها بعد.. سقطت الصورة الجديدة بشدَّة على الأرض، فأرعدتْ، صرختها لا..لا..، السكونَ المضطربَ في حجيرات البيوت العتيقة!