ممنوع التجول... وإليها حنيت!) ا) *

11 ديسمبر 2024

"من يغتصب بيتك عنوةً، لا يمكن أن يجلب لك الفرح أو الأمل في المستقبل."

حزمت أمتعتي في حقيبة سفر متوسطة الحجم، مع حقيبتين كبيرتين مليئتين بالهدايا للأهل والأقارب. بعد فراقٍ دام اثنين وأربعين عامًا، وطئت قدماي مطار بغداد بعد أسبوعين فقط من الاحتلال الأمريكي عام 2003.

كان الشوق للقاء الأحبة لا يوصف. كنت مستعدًا لتحمل أي شيء يعكر صفو لهفة اللقاء.

مشاهد المطار الأولى

كانت صالة المطار مزدحمة بالوافدين، يتجول فيها الجنود الأمريكيون وكلاب التفتيش، إلى جانب أفراد من الجيش والأمن العراقي. عمليات التفتيش كانت دقيقة للغاية، حيث طُلب منا فتح الحقائب مرة أو مرتين للتأكد من محتوياتها.

بدت ملامح القلق على وجوه الجميع، وكان التوتر سيد الموقف؛ أصوات الجنود والشرطة، وأحيانًا صراخهم على الناس للالتزام بالصفوف، أضافت مزيدًا من الشحن. شعرت، كما شعر الجميع، أن هناك فوضى يجب أن نتحملها على أمل أن يتحسن الوضع في المستقبل.ا

أخيرًا، دفعت عربة الحقائب الثقيلة وخرجت أبحث عن سيارة. غمرني شعور بالغربة، وكأن المكان لم يعد كما كان. ربما كان هذا الإحساس طبيعيًا بعد فراقٍ طويل.

إلى ساحة عباس بن فرناس

سألت بعض الأشخاص عن كيفية الوصول إلى ساحة عباس بن فرناس، حتى سمعت صوت سائق ينادي:

"باقي نفرين إلى ساحة عباس بن فرناس!"

أسرعت إلى السيارة بمساعدة السائق، الذي ساعدني على تحميل حقائبي الثلاث.

بين الحنين والذكريات، تسلل شيء من الخوف وأنا أستأجر سيارة أجرة متجهة إلى الكاظمية. وصفت العنوان للسائق بالتفصيل، بما في ذلك اسم أخي وصفته المهنية.

ضحك السائق مازحًا:

"يبدو أنك أول مرة تجي لبغداد... باقي بس تُذكر لي أسماء الأولاد والبنات!"

حين غادرت ساحة عباس بن فرناس، كانت عيناي تبحثان في كل الاتجاهات. الشوارع كانت فارغة، ولم أستطع منع نفسي من التساؤل: هل تغيرت الأشياء؟ أم تغير الإنسان؟

عند الوصول، كان اللقاء مع الأهل والأقارب حارًا ومليئًا بالحنين. لم يمضِ وقت طويل حتى دعانا علي زايد مالكي، أحد كبار السن المعروفين بين الأقارب، إلى غداء عائلي.

توجهت إلى منزل علي زايد مالكي مع بعض الأقارب، حاملًا كاميرتي لتوثيق الحدث. كان الغداء مناسبة للحديث عن مختلف المواضيع، لكن أبرزها كان عن سرقات مؤسسات الدولة.ا

كان الجميع يتحدثون بنبرة حذرة، مع نظرات جانبية كأنهم يتهمون بعضهم البعض ضمنيًا. وبينما كنت أوثق الحدث بالكاميرا، سألني أحدهم:

"هل يمكننا مشاهدة التصوير على التلفزيون؟"

أجبت بنعم. طلبت من أحد الشباب توصيل الكاميرا بالتلفزيون المعلق. وعندها، طلب صاحب المنزل، علي زايد مالكي، من الجميع الصمت للاستماع إلى التسجيل.

صور من الماضي والحاضر

بدأ العرض، وظهرت الوجوه على الشاشة بوضوح. عادت بي ذاكرتي إلى ماضي البعض منهم:

  • أحدهم كان مخبرًا سريًا في أمن بغداد، والآن يختبئ خلف عشيرته ليهرب من مسؤوليته عن أفعاله.
  • آخر، كان بعثيًا مخيفًا، تحول الآن إلى شيخ وملا.

ربما الظروف الاقتصادية والنفسية هي ما دفعت هؤلاء لتغيير مساراتهم. كما يقول المثل: "الناس على دين ملوكهم". في مجتمعنا، حرية الاختيار غالبًا ليست خيارًا حقيقيًا.

دعوة إلى أبو نواس

وسط الضحك والأحاديث المتشابكة، اقترب مني ابن عمي، علي بن حسين، قائلاً بصوت ودي:

"بيناتنا، أريد أعزمك على شرب في أبو نواس أو السعدون."

أجبته بحماس: "موافق!"
قلت لنفسي: هذا ما كنت أتمناه؛ لديّ ذكريات جميلة في أبو نواس، السعدون، الرشيد، وشارع النهر.

سألته هامسًا:

"متى نذهب إلى هناك؟"

أجاب مبتسمًا:

"غدًا ظهرًا آتي إليك بسيارتي، وأعيدك للبيت بعد ذلك."

في اليوم التالي، جاء ابن عمي علي بن حسين ظهرًا بعد نصائح من الأهل، وكان الكلام موجهً

ا إليه بشكل خاص قبل صعودي إلى السيارة. قال علي بثقة: "على مسئوليتي، أُوصلك وأُعيدك سالمًا إليهم!"

علي بن حسين يعمل في شركة سيارات للأجرة بين بغداد والأردن منذ ما قبل الاحتلال الأمريكي، واستمر في هذا العمل بعده. هو شخص مزدوج الشخصية: في الأردن، يحب السهر في الملاهي ويبذر معظم ما يجنيه، بينما في العراق يصبح شخصًا مختلفًا تمامًا، يصلي، يذكر الله، ويمسك مسبحة بيده.

في مكتبه في الكرادة، يجلس ليقدم النصائح بالتقوى، ثم يغمز بعينيه وكأنه يقول: "هذه هي حال الدنيا!". قلت لنفسي حينها: "ربما علي الوردي لم يُخطئ حين تحدث عن ازدواجية الشخصية العراقية."

أضاف علي سؤالًا يُظهر اهتمامه بي أمام الآخرين، وأشار لي أن نتحدث خارج المكتب. قلت له: "أريد الذهاب إلى شارع السعدون للسؤال عن شخص أعرفه يعمل موظفًا في دائرة ضريبة العقار. لديه ذكريات جميلة معي، فارقته منذ أربعين عامًا وأريد أن أعرف ماذا حدث له وكيف أصبح حاله."

قال علي بحماس: "تدلل، ابن عمي!"

وصلنا إلى المكان مشيًا بعد أن تركنا السيارة في الجانب الآخر من جسر الجمهورية. قلت له: "انتظر هنا..." ودخلت بناية الضريبة. حال دخولي، رأيت شخصًا يجلس على كرسي أمام منضدة طويلة، وبجانبه شخص مسلح يقف متأهبًا. قال الجالس بنبرة صارمة: "تفضل، ماذا تريد؟"

قلت: "لدي شخص أعرفه يعمل هنا منذ أربعين عامًا، فارقته وأريد أن أراه."

ابتسم الرجل بابتسامة يملؤها الاستغراب وقال: "عمي، لم يبقَ أحد من الموظفين القدماء في هذه الدائرة."

خرجت من المكان، وإذا بابن عمي يناديني مازحًا: "هل وجدت صديقك أو صديقتك؟" قلت له: "لا، ربما غادر إلى مدينته الأصلية أو حدث له شيء آخر."

ثم أضفت متأملًا: "تعرف يا ابن عمي، عبرة التاريخ والأزمان أن الطغاة والانتهازيين والناس البسطاء يهجرون أو يموتون، لكن المدن تبقى... وبغداد منها."

قال علي بحماس: "اليوم أنا عازمك، لدي صديق في محل وسنجلس معه لبعض الوقت."

قلت: "تمام."

رن هاتف علي بن حسين (تلفون الثريا)، لكنه لم يجب. سألته: "ما الأمر؟ الهاتف يرن وأنت لا تجيب؟" فقال: "هذه زوجتي، بالتأكيد تريد الاطمئنان عليك. وربما أهلك أيضًا يسألون عنك!"

قلت له: "دعنا نعود إلى البيت. الوقت تأخر، وكما تعلم، الوضع محفوف بالمخاطر."

وصلنا إلى المنطقة التي أسكن فيها، وكانت هناك أصوات إطلاق نار كثيف ووجود مدرعة أمريكية في الشارع الرئيسي. بدأ القلق يسيطر عليه خوفًا عليَّ. قال: "سأدخل الفروع حتى أصل قريبًا من بيتكم، ثم أُنزلُك هناك." وسألني: "هل تستطيع الذهاب من الفرع إلى البيت؟"

قلت: "تمام."

لكن الخوف والارتباك والظلام جعلني أفقد التركيز وأتوه لفترة ساعة داخل الفروع دون أن أجد البيت. كنت أتمنى أن يظهر شخص لأسأله: "أين بيت المعلم قاسم؟"

------------------------------------------------

*اغنية لكريم منصور (حظر تجوال)