ورحلتي في مجازات وأودية
أمشي الهوينى
ولم أعبأ بمن ركضوا ومن نقضوا...ا
يا آخر الزفرات وأولها...*ا

بعد فراق دام أربعة عشر عامًا، سافر أبو آدم إلى الأردن - عمان - أيار- 1996

  للقاء والدته وأخته، إذ تعذّر عليه لقاءهما في الوطن الأم، العراق. كانت غصة الفراق ما تزال عالقة في قلبه وقلبها، إذ غادرها دون وداع طبيعي، تاركًا خلفه حزنها ودموعها التي لم تجف طوال سنوات غيابه.

ذكريات الطفولة

كان أبو آدم يشعر منذ طفولته أن أمه "غَنَد"، التي كانت تلف رأسها بعصابة أغلب الوقت، تهتم به اهتمامًا خاصًا. كانت تمنحه بين الحين والآخر "عشرة فلوس" من دخل الدكان الصغير الذي تديره. لم يسألها يومًا عن فكرة الدكان، لكنه كان يراقبها وهي تدير غرفة صغيرة تطل على الشارع من خلال شباك صغير، لا يتجاوز عرضه وطوله ثلاثين سنتيمترًا.

أحيانًا كانت تطلب منه الوقوف مكانها في الدكان، ربما لشعورها بالتعب أو لانشغالها بتحضير الطعام لأبيه وإخوته العائدين من العمل. كان أبو آدم الابن الأصغر في العائلة، وكانوا ينادونه أحيانًا بـ "بزر القعدة"، في إشارة إلى كونه مدللًا، لكنّه لم يكن يراها كذلك.

طفولته البريئة لم تُثقلها هموم المعيشة، إذ كان منشغلًا باللعب والخروج مع أصدقائه. لكن مع تقدمه في السن، بدأت والدته تكلفه بالوقوف في الدكان، وأحيانًا بطلبات أخرى، مثل حمل قدر "اللبلبي أو الباقلاء" من السوق. عندها فقط، أدرك أن ظروفهم المعيشية صعبة، وأن والدته تكافح بصبر لتأمين حياة كريمة لأبنائها.

كبر الأبناء وتخرج بعضهم من الجامعات والمعاهد، وكانت عيون الأم تفيض بالدموع فرحًا، لكنها تخفيها كي لا تُظهر ضعفها. لم تدم سعادتها طويلًا، إذ تورط أبو آدم في السياسة، دون أن يعي ما ينتظره من مخاطر.ا

قالت له والدته بحسرة:
"السياسة ما تجيب غير المشاكل، وإحنا على قد حالنا، يا بني..."

وفي بداية الثمانينات..، بدأ أبو آدم يهرب من بيت والدته إلى بيت أخته الكبرى "نعيمة"، تاركًا وراءه قلب والدته الموجوع. كانت "نعيمة" تعامل أبا آدم كأنه أحد أبنائها، وكانت تخبز له الخبز الحار، قائلة:
"خوية، طيب الخبز الحار مع اللبن."

الغربة والعودة

كان أبو آدم يدرك أن وداع والدته سيحطم قلبه، لذلك اختار الهروب، مدفوعًا بالخوف على حياته، وقناعات شبابية عنيدة... ا

بعد سنوات طويلة، حطّت الطائرة في مطار عمّان. كانت حقيبته الوحيدة تكاد تكون خفيفة، لكن ثقيلة بذكريات الغياب ولهفة اللقاء. وصل إلى شقة صغيرة في حي الرابية الشعبي، الذي يقطنه كثير من العراقيين.

وضع الحقيبة خلف الباب وخرج سريعًا إلى الشارع. كان يقف على الرصيف، يلتفت يمينًا ويسارًا، يتمنى أن يلمح والدته وأخته من بعيد. فجأة، لمح جمعًا من الناس ينظرون بدهشة إلى امرأتين تنوحان بحرقة. اقترب، وإذا بأمه بعصابتها المعهودة وأخته تضربان الخدود، وكأنهما تنعيانه على قيد الحياة.

احتضنهما كطفل تائه عاد إلى حضن أمه. قال للناس المندهشين:
"هذه أمي وهذه أختي، سامحوني لأنني تركتهما دون وداع."

دخل أبو آدم البيت ممسكًا بيد والدته اليسرى ويد أخته اليمنى. جلس بينهما، تحيطه أسئلتهما عن صحته وظروفه، بينما دموعهما لا تتوقف. حاول تهدئتهما قائلاً:
"أنا هنا الآن، لماذا تبكين يا أمي؟"

لكن والدته لم تستطع كتمان ألمها وقالت بصوت خافت:
"يمه، مرّينا بظروف صعبة في البيت... وزوار الأمن كانوا يطرقون الباب ليل نهار، وأحيانًا أشعر كأنهم ينتظرونك في الشارع."

فكر أبو آدم في صمت، ربما كانت تتمنى وجوده هناك ليخفف عنها. لكنّها أضافت بحنان:
"المهم، أنت بخير والآن أمامي. أتمنى أن تبقى أطول وقت ممكن حتى أشبع من رؤيتك."

حنين القلب

همس أبو آدم لنفسه:
"آه يا أمي... ليتني أستطيع أخذ دموعك وأضعها في عيني الجافة، التي لم تعد تعرف البكاء. قلبي وحده يبكي الآن، وأصبح ضعيفًا أمام أي شيء."

ودعتهما وقلبي ملئ بالحزن على امل التقي بهما في السنوات اللاحقة لكن للأسف لم يحصل ابدا ...*ا

--------------------------------

الشاعر عدنان الصائغ

توفيت والدة ابو ادم ...2001-03-29

واخته بعدها بسنة ونصف*

3-2-2025