(الحياة ليست ما يعيشه أحدنا... وإنما ما يتذكره ليرويه)*
"وليد المجنون... العاقل الوحيد"
ربما لم يتوقع أحد منا يومًا، أن يكون المجنون هو العاقل الوحيد بيننا.
هذا ما قاله لي أبو آدم خلال زيارته إلى بغداد في أيلول من عام 2024، حيث التقى أحد جيرانه القدامى، الذي كانوا ينعتونه سابقًا بـ "وليد المجنون".
كان وليد قد أصبح رجلًا كبيرًا، محدودب الظهر، يغطي الشيب رأسه، وعلى عادته يلبس دشداشة رمادية، ممسكًا بعصا تعينه على السير. دخل عقده السابع، وكان يمشي وحيدًا... وهذا ما لفت انتباهي.
اقتربت منه بحذر وسلّمت:
– "مرحبا وليد!"
لم يجب. كررت التحية، ولم يجب أيضًا.
بدأت أشك... هل أخطأت؟ لكن الجيران أكدوا: "نعم، هو وليد المجنون."
أتذكره جيدًا... في طفولته، كان دائمًا يرافق والدته إلى السوق، يضع يده في يدها ولا يفارقها أبدًا. كان يحس أنه يحميها من المسيئين، وهي تحميه من صياح الأطفال الذين كانوا ينادونه بـ "وليد المخبل"، وأحيانًا يرمونه بالحجارة.
لم يكن وليد يرد على الأطفال، ولا يؤذي أحدًا. عيناه تراقبان المارة كأنه يتفقدهم. لكن، ما لا يحتمله أبدًا، أن يمس أحدهم أمه بسوء، فيغضب ويهدد بضرب كل من يؤذيها، كبيرًا كان أو صغيرًا.
وقفت أمامه وقلت:
– "السلام عليكم وليد..."
رفع وجهه، نظر إليّ طويلًا، لكنه لم يرد. حرك شفتيه بشيء لم أفهمه.
قلت:
– "أنا حسن... ألا تتذكرني؟"
أجاب بعينين تفحصاني:
– "هواي ناس اسمهم حسن بالمنطقة... ما أذكر ياهو منهم."
قلت:
– "أنا حسن ابن الزايرة... جيرانك."
أجاب:
– "عرفتك. من طلعت من المنطقة، ما شفتك... وبسؤال مباغت وبحدة: شتريد مني؟"
قلت:
– "لا شيء... فقط أردت أن أسأل عن أحوالك، وعن والدتك. واقترحت عليه أن نجلس في مقهى لنتحدث براحتنا."
قال:
– "تمام... بس اعتبرني (مخبل)، مثل ما يسموني من طفولتي لليوم."
قلت له:
– "ليش تقول هيچ؟"
أجاب:
– "لأنك غريب... وإذا حكيت للناس بما سأقول، ما حد رح يصدقك. الكل يعرف أني مجنون."
قلت له مطمئنًا:
– "أطمئن... ما راح أقول شي لأحد."
قال لي:
"في الطفولة، كان الأطفال يلاحقوني ويصرخون (وليد المخبل) ... أنا ألتزم الصمت، لكن أمي كانت تصرخ عليهم: "عيب عليكم توصفوا ابني بهذا الكلام"."
"في الثمانينات، مع بداية الحرب مع إيران، لم يتمكنوا من تجنيدي... الكل يعتقد أني مجنون. كنت أسمع بعض الناس يقولون: (ليتنا كنا مجانين كي لا نُجبر على الذهاب إلى الحرب)."
"بعد الحرب، بقيت بجانب أمي، تبيع الخضروات في السوق لنعيش. بعد غزو الكويت، صار الناس يفكرون فقط كيف يعيشون يومهم. ومع الحصار، زاد ظلم الحكومة، والناس تغيرت... صار عندهم استعداد يقتلوا بعضهم لأسباب تافهة. الجميع ارتكب الجنون، لكنهم ألصقوا الجنون بي وحدي."
"بعد 2003، لم أهتم بما حدث، فأنا في نظرهم مجنون. الأهم أن أمي كانت بخير. لكنها بدأت تذهب وحدها إلى السوق، تخاف عليّ من الغرباء الذين لا يفرقون بين المجنون ومن يحمل عقلًا، ولكنه مختلف."
"حين اندلعت الحرب الطائفية 2006–2007، لازمنا البيت. بدأ الجنون بأقصى درجاته. الناس يقتلون على الاسم والطائفة. أنا لم أكن محسوبًا على أحد، لأنني "مجنون"، لا أميز بين طائفة وأخرى. حين يسألني أحدهم: (شنوا طائفتك؟) ، أقول بلا مبالاة: (ما أعرف)... واسمي؟ تقول أمي اسمي (ولول)... يعني وليد."
"فيتركوني وشأني."
(مالي وللناس كم يلحونني سفهاً... ديني لنفسي ودين الناس للناس)*
سألته:
– "وكيف حالك الآن؟"
أجاب وليد (المجنون):
– "بعد وفاة أمي... أشعر أنني لا أنتمي لأحد. فقط أنتمي كإنسان لها. عسى يومًا تعود وتحمي هذا القلب من شرور العالم والمتعصبين الذين ما زالوا يعبثون بحياة تستحق أن نعيشها بسلام."
-----------------------------------
*(مثل شائع لدى الناس)
الكاتب غابرييل غارسيا ماركيز *
الحلاج( الحسين بن منصور) *
نُقل عن لسان "وليد المجنون"... وربما هو الأصدق بيننا.