منطلقات السيرة الذاتية , تحتاج الى خبرة وكفاءة في هندسة لسردها وترتيبه أحداثها في صياغة تملك ابداع فني في التكوين , في ذكر أهم الأشياء الحساسة والمؤثرة في فعلها السردي الدراماتيكي الصاعد الى الذروة , في السليقة الشعورية في الكشف والبوح , في المشاعر الحسية الداخلية , التي ظلت راقدة في الذهن والشعور , وينبغي افراغها وسكبها بصياغة الفن الروائي الحديث , لذلك السرد الروائي , برع في ترتيب هذه ا الانثيالات الشعورية الذاتية , ربما شيء مختلف عن المألوف , بأن أغلب الروايات , السيرة الذاتية , عن أحلك مرحلة سياسية مرت في تاريخ العراق , هي فترة حكم البعث المتسلط بالإرهاب والطغيان , والمواطن تحت مجهر عدسة رجال الأمن , في المراقبة والترصد , أغلب هذه الروايات جاءت على لسان رجل أو بصيغة المذكر , ولكن هذه الرواية جاءت بلسان امرأة بصيغة المؤنث , التي عاشت هذه الذكريات بالمعايشة الفعلية واليومية , كانت في عين الترصد والمراقبة , لان زوجها نجا من قبضة الدولة البوليسية , واختار طريق الغربة في ( بلغاريا / صوفيا ) وكانت السلطات الامنية اعتقدت بأن زوجها لم يتحمل فراق زوجته وهي حامل ( كان لديهم يقيناً بعودتك طالما أنا باقية هناك قريبة منهم , كأنهم لم يفهموا !! ) ص26 . لذا فنحن إزاء ذكريات واقعية حدثت فعلاً, تمثل بخطوطها العامة , وجع الوطن . وجع النضال السياسي والحزبي , وجع الغربة في ظروفها الصعبة وفي أماكن مختلفة ( العراق . بلغاريا / صوفيا . اليمن الجنوبي ) حتى المناخ مختلف كلياً , من درجة السخونة العالية ( العراق . اليمن الجنوبي ) الى درجة التجمد 10 درجات تحت الصفر ( بلغاريا / صوفيا ) , بدون شك هذا التكيف صعب في هذه الأماكن المختلفة , تحتاج طاقة لتحمل اكثر من الواقع الاعتيادي , لكن السارد العليم , بطل الاحداث الروائية , تعلمت وتربت من عائلتها , الام والاب , خصال التحدي والشجاعة والثقة بالنفس , إن قدرة الصياغة السردية تجعل القارئ يفهم ويدرك مدى قساوة سنوات العجاف , سواء داخل العراق , وفي الغربة والمنفى ايضاً , جسدت فيها مشاعرها الذاتية بسليقة حرة منطلقة من أعماق الشعور الذاتي , هذا يشير اننا بصدد امرأة مناضلة ومكافحة تتحدى الظروف بكل تضاريسها المختلفة , رغم الوجع والالم الداخلي, لذا صفحات السرد الروائي . هي ازمنة التحدي , رغم هواجس القلق والتوجس والحيرة , ان هذه الرحلة الطويلة , في رحلة المنافي الطويلة , هي رحلة المجازفة والمجازفات الدائمة والمستمرة , منذ ان وطئت قدميها في ارض مطار صوفيا , ولم يكن زوجها في استقبالها , وذهبت الى الفندق وحدها , وهي تحمل حقيبة الكتف فقط , وبعد ايام التقت بزوجها الحبيب , وكذلك عانت من بعض السلبيات من العلاقات الرفاقية , التي صدمتها بالمفاجأة غير المتوقعة , بأن أحد اعضاء اللجنة المركزية للحزب الشيوعي البارزين ,قابلها بالغضب والاحتجاج بصوت غاضب ( أخرجي من هنا لا نريد رؤيتك ) حاولت ان تجد مبرر لهذا الغضب , لكن عبثا وتحملت ذلك على مضض , وواصلت جهدها في العمل والدراسة , وممارسة مهنة الخياطة والتطريز , ويكون ريعها المالي هو دعم الأنصار في كردستان , كما لاحظت بعين غير راضية , هو ترتيب اوضاع اقامة الرفاق المتواجدين في بلغاريا , منْ يمتلك صداقات ومعارف , يرسل الى الدراسات الجامعية , وغيرهم يرسل الى دورات حزبية ودراسات اكاديمية محدودة , حاولت ان تقنع نفسها , بأن ضرورات النضال الوطني تتطلب هذه الإجراءات, وجاء وقت المخاض والولادة , واصبحت أم , ملئ هذا الوليد الدفء والحنان , وهي بامس الحاجة اليه لكي يملئ حياتها , في هذه الظروف الصعبة , وتعلمت ان تتحمل الوجع والالم , كزوجة وام , وحتى من العلاقات العامة , حيث تجمعت عوائل الرفاق بكثرة في الفنادق , كثر القيل والقال, لكنها تمسكت بقوة الحب الى زوجها , فهو الملاذ الامن في هذه الرحلة الطويلة ( لقد كانت رحلة شاقة , لكن علمتها : ان الحياة ليست دائماً كما نخطط لها , وان الحب الحقيقي هو ذاك الذي يظل صامداً رغم كل العواصف .................. ظلت ذكريات تلك الأيام محفورة في قلبها , لا ذكرى ألم , بل كاثٍ من القوة والمثابرة ) ص89 . وجاءت الغربة الثانية هو الرحيل الى اليمن الجنوبي بقرار حزبي , فوافق زوجها على القرار , وعرفت عن زوجها لا يعارض أي قرار من الحزب , يمتثل لكل قرار مهما كان ( كان زوجها ممن لا يعارضون , ولا يبدون امتعاضاً حين يتعلق الامر بتوجيهات الحزب , فقد نذر حياته لقضية آمن بها حتى العظم , واخلص لها إخلاص العابد المتبتل في محرابه , أما هي ورثت عنه هذا الولاء ) ص94 . هذا الولاء تداعياته احساس تعمق بالنضال الوطني , لكنها وجدت نفسها على تخوم هذه البقعة من العالم ( اليمن الجنوبي ), اوضاع لا تحتمل ولا تطاق , اشتغلت مع زوجها بمهنة التعليم براتب زهيد , يصعب تلبية الحاجات الاساسية اليومية , لكن اقتنعت بهذا الوضع الجديد , ليس منفى , وإنما ولادة جديدة في قطار العمر , وكان الصبر ملاذها , رغم الحزن والكابة . بدون شك حكايات السرد كثيرة ومتنوعة من الهموم والاشجان , لكنها تبقى هذه الذكريات توثيق تاريخي وسياسي بالغة الاهمية ........ نقتطف منها :
1 - الأم زهرة :
هي قريبة الشهيد سلام عادل ( حسين احمد الموسوي ) . تسرد عن سيرة حياته , بكل فخر واعتزاز , منذ ربيع عمره انخرط في غمرة النضال السياسي والحزبي , رجل واثق من نفسه متفاني في قضية الوطن والاخلاص له , بل كان ملحمة ثورية بطولية , تسرد الحكايات عنه بكل قدسية ( الرجل الذي لم يكن شخصاً عابر في الحياة , بل ملحمة نضال تمشي على قدمين ..... حسين احمد الموسوي . المعروف بين رفاقه بأسم خلده التاريخ - سلام عادل - ) ص140 . كانت الام زهرة , مثال الشجاعة والاقدام , وكانت تقف في وجه رجال الأمن في العهد الملكي , والى زمن الحرس القومي البعثي , ونشأت من عائلة فقيرة كادحة , تعلمت مهنة التمريض , وكانت تقدم خدماتها الى الناس , وخاصة عند النساء ساعة المخاض, كانت محل حب واحترام لدى الناس , وتكون حاضرة ساعة الشدة والعسر .
2 - الاب : صورة الأب الواعي والمتفهم في حاجاتهم المادية والإنسانية, ويتذكر موقفه المشهود , بكل حب واعتزاز , حين جاء ابن العم يطلب يد ابنته للزواج , وهو يفتخر بأمواله وامتيازاته الكثيرة بما يملك , فوقف الاب في وجهه بصلابة وصرخ به ( ليس عندي بنات للبيع .. أنا لست من تبحث عنه ) ص177 . فكان بالنسبة الى عائلته الداعم والسند , وكان يكتب الشعر , يقرأ قصائده التحريضية ضد الظلم والطغيان , وكان يستغل المواكب الحسينية , لبث حماس الناس ضد الظلم والطغيان والارهاب , وليس فقط ذكر مظلومية الحسين , بل قصائد تصب في توعية الناس . كان الشعر يسري في عروقه كما الماء في العروق , فكان شعره سلاح سياسي ضد سلطات الإرهاب , كان والدها يكتب الشعر في الليل ما سيردده في النهار , يلقي اشعاره بصوت الجهوري وسط المواكب الحسينية ( والدها لم يكن شاعراً فحسب , بل كان ضميراً حياً , يقف في وجه الجهل والخوف مستنداً إلى قضية لا تموت ) ص183 . وجاءت ساعة الاعتقال في زمن البعث , في جملة اتهامات منها : شيوعي خطير , وتارة ينتمي الى حزب اسلامي , تارة اخرى مهرب , يهرب السلاح والعبوات الناسفة . كان غياب الاب صعب جداً على عائلته , صدمها بحزن غيابه , ولكن بعد اطلاق سراح السجناء السياسيين عام 1973 , أطلق سراحه , فتح الباب ببطء وأطل شبح انسان في جسده النحيل , في حالة يرثى له , فقال بصوت متهدج مخنوق ( هل انتم جميعاً بخير ؟ لم يعتقل احد ؟ لم يعذب منكم احد ؟ ) ثم أضاف بقوله ( الحمد لله ..... كنت اسمع اصوات استغاثتكم بي , من الزنزانة المجاورة كل ليلة , كنت اميز صراخكم , كنت اسمع احدكم يصرخ : أنقذني يا أبي , أنا أموت , لقد هددوني بكم ..... كانوا يعذبونني بذلك , ينهشون قلبي قبل ان ينهكوا جسدي ) ص187 .
3- الزوج الحبيب : تربى في عائلة بسيطة وفقيرة وكان والده عامل , لا يملك من الدنيا سوى عرق كدحه وجبينه , واصل دراسته بامتياز , وانخرط بشهية طاغية في حب قراءة الكتب الفكرية والادبية , وانخرط في النضال السياسي والحزبي , وبرز من الأسماء الادبية اللامعة في العراق , وكان محل احترام وتقدير في قلوب الناس . تزوج من حبيبته رغم معارضة أمها , وكان الزواج بحضور شاهدين فقط , لا مهر , ولا احتفالات , ولا تجهيزات فاخرة ليوم الزفاف , لأنها كانت تؤمن بالحب ( كانت مؤمنة بأن من اختارته شريكاً لحياتها , سيفهم طموحها , سيدعمها , سيقف إلى جانبها في كل خطوة , بهذه القناعة واجهت الجميع وتحدت اهلها ) وخلال الحملة الارهابية البعثية , خاض عمار الغربة والمنفى وترك زوجته الحامل , لكن التواصل استمر بدوام الحياة رغم معاناتها , بذلك اختتمت الرواية بهذه المقولة الحكيمة ( لا نهاية تكتب إلا في طيها بداية آخرى , أكثر املاً واشراقاً , وأشد امتلأ بالحب ) ص231 .