ظلام الفنار - قصة قصيرة
على سن حجري بين اليابسة والماء، تقبع احلامه الحبيسة في صومعته الحجرية، تتراقص طيور النوارس على امتداد الريح بين الامواج، تتشكل قطع الغيوم على الفسحة الخضراء مدنا ومنافي، نسي كلبه الارقط رائحة الكلاب والقطط، هزّ ذيله لصاحبه محاولا استدراجه خارج دائرة الملل، رمى عصاً صغيرة بعيدأ فطار الكلب فرحاً خلفها، رفع رأسه الى السماء ليبحث عن صوت دوي بعيد، ابتعدت الطائرة النفاثة تاركةً خلفها خيطاً ابيضاً طويلاً متعرجاً متلاش عند نهايته، حلقت النوارس شرقاً وغرباً غير آبهةٍ للحدّ البخاري الناصع البياض.
توسد حجراً وافترش الخضرة ليغط في نوم عميق، لعق الكلب خده فأستفاق على نداوة اللسان ورطوبة البحر، جرجر اشلاءه المتكاسلة بخطى مرتعشة، صفق الباب بين العتمة ونور مصباح متدلٍ في وسط الغرفة، تهالك على كرسي بجانب منضدة صغيرة بُعثرت عليها اقداح وصحون تيبست فيها بقايا الطعام، نفث دخان سيجارته بين شاربيه ولحيته الطويلتين، ارتشف بقايا شاي الصباح في قدح المساء، ادار المذياع فجاءه صوت الاخبار الرجولي:
ـ انفجار مروّع في بغداد...
ـ قصفت طائرات اسرائلية قطاع غزّة...
ـ قصفت طائرات امريكية ضواحي قندهار...
ـ قصفت طائرات سعودية شمالي اليمن...
ـ .................................................
اهتزت ذاكرته على وقع الانفجارات، فتطايرت امامه اشلاء حروب لبلد بعيد حاول أن ينساه.
اسرعت يده لعتلة المؤشر، فجاءه صوت ازيز وانفعالات وخربشات ليستقر المؤشر على صوت عذب، طالما اسكر ارتعاشات القلب في ليالي الحزن المنثورة على حانات شط العرب:
ـ قصّـةُ... الأمس...
.................
.................
أنا لن أعــود اليك ...
مهما إستذكرت، دقـّات قلبي...
أنت الذي بدأ الملامةَ والصدودَ .. وخــان حبي ...
فأذا دعوت اليوم، قلبي للتصافي...
لا... لا... لـــن يُلبي
................
سحب قنينة كانت مركونة الى الجدار، افرغ مافي الكأس من بياض الى معدته الخاوية، ثم نفث بقايا سيجارته على الشاشة الدخانية فارتسمت امام عينيه احلام حبٍ غابر، كانت تقف عند عتبة الدار مستندة بجسدها الممشوق الى زاوية الجدار، رمقته بنظرة ودودة حيرى مع ابتسامة خفية، على دراجته المتباطئة مرّ من جانبها معقود اللسان متسمر العينين على وجنتيها الرقيقتين، إنطفأ اللقاء بلمح البصر، ادار وجهه الى كوة في الجدار اربكه بصيص وميض من بعيد، حمل نفسه مسرعاً الى أعلى الفنار، خطف المنظار ليحدق من خلاله في المشهد الضبابي، تلاشى الضوء تدريجياً ليغور في بحر من الظلام.
عبد الرضا المادح
2010 . 01 . 13
البصرة