ربما نُجبر على مفارقة أوطاننا، وربما نجد وطنًا آخر يأوينا…
لكن يبقى وطن الطفولة والصبا راسخًا في القلب والعقل، لا يغادر الذاكرة مهما طال الزمن.
تحدثت "هيام" بحسرة، وقلبها مملوء بالحزن، وقالت:
"لم أختر وطني، بل هو من اختارني!"
وتابعت:
"منذ ولادتي وطفولتي التي عشتها في العراق، حيث سكن أهلي في شارع فلسطين القريب من مدينة الثورة، لم أفكر بشيء سوى أن أعيش طفولتي كبقية الأطفال. كنت ألعب مع البنات، وأذهب إلى المدرسة، لكنني لم أحب اللعب في منطقتنا، كانت موحشة، ولم يكن لدي صديقات هناك. ربما لأنها لم تكن منطقة شعبية. كنت أجد الراحة فقط في بيت جدي الذين يسكنون في مدينة الحرية الثانية. كنت أذهب إليهم في كل عطلة أسبوعية، وإذا لم يأخذوني، أبكي طوال اليوم حتى يرضخوا."
وتقول هيام:
"جدي جاء إلى العراق في خمسينيات القرن الماضي بحكم عمله في شركة النفط، بعد أن تعب من التنقل من منطقة إيلام في إيران إلى بغداد، فاختار البقاء فيها، مع عائلته الكبيرة وأقاربه الذين عاشوا أيضًا في العراق."
الوداع الأول...
"مرت الأيام والسنين، كبر الأطفال وأصبح لكل منهم حياته الخاصة. كنت حينها في الثانية عشرة من عمري، وأتذكر جيدًا ذلك اليوم الذي ذهبنا فيه إلى بيت جدي، كانت أمي تبكي بحرقة وهي تودعهم، وكنت أبكي أيضًا، لأنني لن أزورهم مجددًا أو ألعب مع صديقاتي هناك."
"كان ذلك في أوائل الثمانينيات، قبل اندلاع الحرب العراقية-الإيرانية. قالوا لنا إنهم سيرحَّلون إلى إيران. لم نفهم لماذا. كانت أمي تبكي بشدة، وبعض الناس لم تستوعب ما يجري، لكنه كان تهجيرًا قسريًا لا حول لنا فيه ولا قوة. الناس خافت من الاعتراض على السلطة، وفضلوا الصمت، أما الآخرون فكانوا لا مبالين."
"بقينا في شارع فلسطين، لكن في قلبي حسرة أنني لم أعد أذهب إلى بيت جدي. لم يتخيل أهلي حينها أن الدور سيأتي علينا أيضًا."
ساعة الرحيل...
"في عام 1980، كنت أنا وأختي عائدتين من المدرسة بملابسنا المدرسية الجميلة – التنورة الزرقاء والقميص الأبيض. عند وصولنا، قالت أمي على عجل: 'غيّروا ملابسكم بسرعة، سأخبر والدكم أن يأتي حالًا'."
"كان رجال الأمن يقفون على مقربة من باب البيت، مع سيارة عسكرية مكشوفة. أمرونا بالصعود. سألت أمي: 'لماذا؟' فرد أحدهم: 'أنتم تبعية لإيران'."
"وصل أبي مسرعًا مع شريكه في العمل، وأوصاه أن يحتفظ بكل ما لدينا في المنزل والعمل حتى تحل الأمور… كان يظن أننا سنعود."
"كانت أمي حاملًا في شهرها التاسع، بطيئة في حركتها، تتمتم بالدعاء باللغة الكردية. أثناء استعدادنا للصعود، همس أحد الجنود لأمي: 'خذي معك بطانية... التهجير ليس لكم، بل للمصريين!'."
"دخلت أمي وأحضرت شرشفًا أبيض، صعدنا جميعًا إلى السيارة، ونحن نمسك بعباءتها خائفين من المجهول. أوصتنا بالصمت، وأن نترك الأمر لها ولوالدنا."
الرحلة نحو المجهول...
"كنا سبعة أطفال، أكبرنا أختي (آمال) وكان عمرها خمسة عشر عامًا. غطتنا أمي بالشرشف خوفًا من أن يلاحظ رجال الأمن أننا كبار. أخي الذي يكبرني بسنة كان طويل القامة، وظن الجنود أنه هارب من الخدمة العسكرية. أخذوه، لكن أمي صرخت وركضت خلفهم حتى استعادت ابنها."
"نُقلنا إلى قاعة كبيرة مليئة بالعائلات، بعضهم أقاربنا، لكن لم يُسمح لنا بالكلام معهم. تركت مدرستي وصديقاتي دون وداع، وأخي الصغير (قصي) بكى بحرقة، ممسكًا بيد ابن الجيران. بكيا معًا لأنهم سيفترقون."
"قلت لنفسي: اللّعنة على هذه الدنيا التي تجعل الأبرياء وقودًا لحرب لا ناقة لهم فيها ولا جمل، من أنظمة متسلطة لا إنسانية فيها."
إلى الحدود...
"مرت ساعات ونحن لا نعلم إلى أين نحن ذاهبون. ثم جاء رجال الأمن وأمرونا بالصعود إلى سيارات عسكرية مكشوفة. تم نقلنا إلى جهة مجهولة، سار والدي معنا، أمسكنا بأيدي بعضنا، قال أحد الأشخاص بصوت عالٍ: 'دعونا نسير تباعًا… وعندما نعبر الحدود، نهتف: الله أكبر!'، فبدأ الناس يسيرون وينادون بعضهم البعض."
"كان الغروب يقترب، دخلنا منطقة حدودية قفرا لا بشر فيها ولا أصوات. مشينا ببطء في الظلام، حتى قال أحدهم: 'نستريح هنا'. التحفنا الشرشف، وتجمّعنا حول أمي التي حاولت تدفئتنا… التعب والبرد جعلا نومنا ثقيلًا حتى الصباح."
الفجر المجهول...
"استيقظنا صباحًا، لم نجد أحدًا حولنا. سألت أمي: 'ماذا نفعل؟' فأجاب والدي: 'امشي مع الأطفال كما كنا، سأسبقكم لأتقصّى أخبار الذين ذهبوا قبلنا...'"
-----------------------------------------------