الخزف حقلًا فنيا ومعرفيًا وإنسانيًا
الفنان ليث عباس (55 عاما) من الفنانين العراقيين المغتربين في السويد، وبعد أن أكمل البكالوريوس والماجستير من جامعة بغداد للفنون الحرة - قسم الخزف، أكمل الدكتوراه في الاختصاص نفسه، شارك في عشرات المعارض الفنية في العراق والسويد، منها خمسة معارض في عدة مدن سويدية، وله أيضا العديد من المعارض الخاصة، وهو مالك قاعة فنية في السويد، ومدير ورش عمل فنية، وعضو في الهيئة الإدارية لجمعية الفنون السويدية، وكذلك له استوديو سيراميك خاص في بغداد والسويد.
وكان حوارنا التالي معه في السويد حيث يساهم في عدة نشاطات.
- ممكن اعطاؤنا فكرة عن بداية نشوء وتبلور موهبة الفن لديك؟
- نشأت في بيئة فنية كون الوالد رحمه الله كان فنانا تشكيليا، وكوني نشأت في مدينة بغداد وفي أحد أحيائها الجميلة، تبلورت بداخلي بذرة الحس الجمالي مبكرا بفعل مشاهدات العمارة الحديثة وما تعلق معها من أعمال فنية كذلك البيئة الثقافية العراقية التي كانت ولازالت غنية وزاخرة، إلا أني استطيع أن أشخص نقطة مفصلية في توجهي الفني وهي تلك المتعلقة بتعليم والدي لي دروس المنظور في سن مبكرة من عمري، وهذا أثر بيَّ بشكل كبير على تنشيط الحس الجمالي ثلاثي الأبعاد، فقد رسمت ومنذ فترة مبكرة مجموعة من الهياكل المعمارية، كما شكلت دراستي الإعدادية في الفرع العلمي نقطة تحول أخرى، بمعنى انها ولدت عندي شغف العلم والمعرفة العلمية، والتي سنراها قد انعكست بشكل واضح فيما بعد بأقبالي نحو الخزف كونه حالة فنية علمية تحتاج لمستوى عال من المعرفة بالكيمياء.
وشكلت الدراسة الاكاديمية مفصلا هاما في حياتي الفنية، فالاحتكاك بالوسط الفني والأكاديمي، أعطاني تصورا عن المواضيع الدراسية مثل كيمياء الخزف والخامات والأفران، والدرس العملي، إضافة إلى مواضيع مثل تاريخ الفن وعلم الجمال والنقد بنية قوية لمعرفتي الفنية.
لك حضور جميل في معارضك، وخصوصا في السويد.. فكيف أثرت فيك الغربة؟
- الإغتراب، مفصل مهم في حياتي الفنية والاجتماعية، تراه قد انعكس في نشاطي الفني، الذي بقي نشطا ومكثفا إلى هذه اللحظة، بسبب السهولة النسبية لامتلاك مشغل الخزف، رغم الصعوبات، لكن هناك عوامل أخرى سهلت ذلك مثل البنية التحتية، والنقل، ومصدر الطاقة، ومن جهة أخرى كان نشاطي مكثفا بسبب التحديات لإثبات الوجود ولصنع دور مهم لي في بلاد المهجر، كما لا ننسى أن لتغيير البيئة والثقافة كوننا مهاجرين، ينعكس على أداء الفنان بشكل مؤثر، فتراني أحاول ان أنقل إحساس الدهشة والاكتشاف من خلال ما أطرحه من نتاجات فنية.
- ما هو التكنيك المتبع لاخراج هذه الألوان الزاهية وبهذه الأشكال المغلفة بالغموض؟
- في السويد، تولد عندي نوع ما أسميه الوهج التعبيري، لأني وجدت في وسط حركة فنية عالمية نشطة، فحاولت ان أطرح في أعمالي كل ما تجود به معرفتي وثقافتي الفنية، إضافة إلى استخدامات لتقنيات غير مألوفة ومواضيع وتكوينات قد ابتعد عنها الخزافون لصعوبتها، وانطلاقهم بشكل عام من ما يملكونه من تقنية وهي التي تقودهم لإنتاج أعمالهم، أما في حالتي فكان العكس هو الصحيح، وهو أن الموضوع التعبيري الفني الذي أحب القيام به هو الذي يفرض علي التقنية والأداء، وهو ما عملت عليه في عدة معارض على مدى عشر سنوات، أي قبل حدوث التحول الجديد في أسلوبي، كان ذلك المفهوم قد تمحور حول الأسطورة، وحتى بشكلها المعاصر. إننا إزاء جهلنا بهذا الوجود لازلنا نعالج هذه المشكلة بتأويلات أسطورية تشكل بها علاقتنا مع الكائنات الأخرى محور الحكايات، إن هذا يفرض علي مستوى أداء وتقنية ليست تقليدية، وهنا تظهر ضرورة تكييف المادة أي مادة الخزف لتستطيع ان تجسد هذه المنطلقات، فتقنيات أعمالي تبدأ من تحضير الأطيان التي تمتلك اللدونة في التشكيل والصلابة بعد الحرق فهذه نقطة مهمة فهي تساعد على صناعة تفاصيل دقيقة في العمل وكذلك تحملها الكسر والتلف بعد الحرق، هذا من جهة ومن جهة أخرى، فإن عميلة التلوين والتزجيج تحمل في طياتها دراية وممارسة كبيرة، فقد استخدمت أولا تقنية الأطيان الملونة، واستخدام طرائق ووسائل تطبيق متنوعة، ومن ثم يتم طلاء العمل بأكاسيد وألوان تحت الطلاء الزجاجي، ثم مرحلة التزجيج الذي يتكون من تركيب متنوع من الألوان والتراكيب الزجاجية. ثم مراحل أخرى من التذهيب والطلاءات البورسلينية.
- ما الذي تخطط له من أعمال وانجازات؟
- أكيد ان المشاريع لا تنتهي، وتركزت نشاطاتي الأخيرة على البنيالات والمعارض العالمية، وهناك مشاركات ومشاريع قريبة وكثيرة، وبكل تأكيد ستكون لي نشاطات في بلدي الحبيب العراق، ستكون نشاطات بشكل معارض شخصية ومشاركات في المعارض السنوية، كما أقمت ستوديو خاص لي بالعراق أيضا سيكون نواة لمشاريعي في العراق ومدينتي بغداد.
- أرى لديك فلسفة خاصة ومتحيزة لفن الخزف؟ فما هيّ رؤيتك الخاصة لعوالم الخزف ...؟
تشكّل الوسائط الحسية (Sensory Media) أحد المحاور المركزية في الخطاب الجمالي المعاصر، خصوصًا في الفنون البصرية والمجسّمة، ومنها فن الخزف. فمع تطوّر المفاهيم الجمالية وتداخل الحقول المعرفية، لم يعد الخزف مجرّد ممارسة تقنية أو تزويقية، بل أصبح وسيطًا تعبيريًا يختزن داخله فعلًا حسّيًا مركّبًا، يتراوح بين الحضور المادي والغياب المجازي، وبين التفاعل الحيّ والانقطاع الصامت. هذه الثنائية – الحضور والغياب – تمثّل جوهر فهمي للوسائط الحسيّة في أعمالي الخزفية.
أولًا: الوسائط الحسية كمفهوم جمالي في الخزف
في جوهره، يتعامل الخزف مع الطين والنار والزمن، وكلها عناصر حسية. فالمادة (الطين) تستجيب للمس، والشكل يحرّك البصر، والسطوح تثير الحواس عبر ملمسها ولمعانها وشفافيتها. غير أن حضور الوسائط الحسية لا يقتصر على الجانب الفيزيائي، بل يمتد ليشمل تجلياتها الرمزية والوجدانية. فكل منحوتة خزفية هي فضاء تفاعلي بين الحضور المادي للكتلة، وغياب الجسد الإنساني الذي صاغها. إنها تحاكي لمسة اليد، لكنها تحتفظ بصمتها، كأنها أثر لما لم يعد موجودًا.
ثانيًا: الحضور والغياب كديناميكية حسية
يشير الحضور هنا إلى ما يمكن إدراكه مباشرة بالحواس: الكتلة، اللون، الملمس، الحرارة، الصوت حين يُقرع العمل، والرائحة حين يخرج من الفرن. أما الغياب، فهو ما يُستدعى عبر العمل من معانٍ وتجارب غير منظورة: الذاكرة، النداء الداخلي، الروح المختبئة خلف الطين، أو حتى الفراغات داخل المجسّم.
في أعمالي الخزفية، لا أُخضع الحواس للمباشر، بل أحرّضها على التأمّل. أحيانًا أُخفي الملمس خلف أسطح ملساء، وأحيانًا أُبرز الخشونة لتذكّر المتلقي بفعل الزمن والطبيعة. أستخدم التزجيج Glass Fusing أو شقوق راكّو Raku كعلامات على "التمزّق الحسي"، أو الغياب الناجم عن الحضور الزائد للزمن، أو للعوامل البيئية.
ثالثًا: الوسائط الحسية في تجربتي الخزفية
في مشروعي الفني، أحاول استنطاق الوسائط الحسيّة لا بوصفها أدوات لنقل الجمال، بل كفاعلين في إنتاج المعنى. فاللون في أعمالي ليس تزيينيًا، بل هو درجة انفعالية؛ والفراغات التي أتركها داخل الكتلة ليست نقصًا في التكوين، بل صوتًا غائبًا يُفترض أن يُسمَع بصمت.
أستخدم أحيانًا الطين الأسوَد (Black Clay) لتكثيف الشعور بالغياب، وجعل العمل أقرب إلى أطلال أو شواهد زمنية.
بينما تمنحني المينا الشفافة Glazes مساحة للحضور، عبر الكشف عن التفاصيل الدقيقة، أو تعزيز التناقض بين الكتلة والضوء.
أدخل أحيانًا عناصر زجاجية أو معدنية كمرايا لحركة الضوء والظل، لاستدعاء بُعدٍ حسيّ لا يُدرك إلا بتحرّك المتلقي حول العمل.
رابعًا: نحو تفعيل الوعي الحسي لدى المتلقي
إن فعل الوسائط الحسية في أعمالي الخزفية ليس غاية جمالية فحسب، بل هو دعوة للمتلقي لاستعادة علاقته بالجسد والحواس، في عالمٍ بات يهدّد الحضور الحسي بالافتراض الرقمي والواقع الافتراضي. لذلك أسعى إلى خلق علاقة تشاركية حسية، تُرغم المتلقي على أن "يحضر" هو أيضًا – ليس فقط بجسده، بل بإحساسه وذاكرته وخياله.
خاتمة:
إنّ التفاعل بين الحضور والغياب في الوسائط الحسيّة لا يعكس فقط تطورًا تقنيًا أو صوغًا جماليًا، بل يعيد تعريف الخزف بوصفه حقلًا معرفيًا وإنسانيًا. وفي تجربتي، يتجاوز الطين كونه مادة خامًا، ليغدو وسيطًا حيًا بين الجسد والذاكرة، بين اللمس والتأمل، بين ما يُقال وما يُلمَس دون كلمات.
- نتمنى لك النجاح والتألق الجميل ومستقبل زاهر.
نماذج من أعمال الفنان: