وحدة

اليوم  كانت خطواتي المسائية المعتادة رتيبة فوق البساط الأخضر المندى لحديقتي الواسعة المهملة، ذات الأشجار الكثيفة المتشابكة، وأصص الورود المبعثرة بفوضى عابثة.

كل شيء يشي بالترهل والجدب، حتى نقرات نعلي البلاستيكي الكتومة وهي تخطر بتثاقل فوق خضرة الأرض الندية، ما كانت تستسيغها روحي، وقدماي متعبتان تخطان سيرهما بتمهل دون هدي منذ أكثر من ساعة. هناك كتاب مهمل بغلاف جلدي كلح لونه لكثرة ما تعرض للفح الشمس، يرقد منذ أسبوعين فوق كرسي الخيزران العتيق لصق شجرة السرو القزمة.

مثلما البارحة وقبلها بأيام مضت مسرعة، اخترت النوم وحيدا في الغرفة الباردة ذات النوافذ العريضة المطلة على بركة ماء المسبح، الذي ما عادت الذاكرة تسعفني للتعرف على أخر مرة عام جسدي مسترخيا فيه. ولم اكسر اليوم عادة الأشهر التي سبقته في تنقلي الليلي للنوم وحيدا في باقي غرف الدار المسكونة بالصمت الموحش.أجوب أشبار الدار، أتنصت صوت التلفاز المرمي بعيدا في زاوية غرفة الضيوف،واسمع ضربات الأغصان في الخارج وهي تعاند وتتأرجح مع بعضها. وأعيد تكرار عد رخام درجات السلم كلما وجدتها أمامي، كل ذلك محاولا إبعاد ما رقد في الذاكرة.

اليوم اجتاحتني رغبة المبيت في إحدى غرف الطابق العلوي. الغرفة المغلقة منذ عامين مضين. الغرفة الأثيرة لابنتي الوحيدة التي ما عرفت عنها شيئا مذ هاجرت وهجرتني بعيدا مع أمها. لازالت الغرفة بستائرها الموشاة بالدانتيل الزهري والمسدلة طوال الوقت، ترسخ في سكونها القهري. لوحة الفرس الجامح المسمرة جوار المنضدة في طرف الغرفة البعيد، والسرير العريض ذي الغطاء المطرز بألوان فاقعة و لعبة الأرنب الوبرية الكبيرة المرمية جواره، تذكرني بصخبنا المفتعل وكلمات وداع تبادلناها عنوة وببرود تأبيني ذات صباح. حينها ضجت أشجار الحديقة بصيحات فزعة مجنونة لسرب طيور كثيف، وذبلت معها زهور الأصص بلمح البصر، بعد أن جف اخضرار سيقانها منذ ما يقارب العامين. ومع صمت الجدران الكثيف أحسست أن الكثير من كل ذاك الصخب قد هُد، وعرفت كيف أفل، وتسللت شمسه مسرعة نحو غروب. صباح بحثت فيه عن نفسي، ولكن وهو يسدل ستارته ويمضي بعجالة اكتشفت حينها وحدتي المفزعة.   

روح

ببرود دفع الطبيب جملته اللعينة وهو يتصفح الأوراق الموضوعة أمامه.

ــ إنها تملك قلبا بصمامين معطوبين شبه عاطلين، وتضخم متقدم واعتلال شديد بعضلته اليسرى، ليس سوى سرعة إبداله، ما ينقذ هذه الطفلة من موت فجائي.

كان هذا الإيجاز الطبي يكفي ليكون رصاصة ثقبت رأسها. نز عرق بارد عن صدغها وخارت قواها، فهربت بدمعها بعيدا دون وجهة معينة.

كانت أم رضاب بسنواتها الأربعين في حلمها وحيدة في مساء كالح الظلمة، تقف عند حافة هاوية عميقة في مكان موحش مقفر. يرن في رأسها دون فكاك ضجيج أهوج، وهناك في عمق الغور بعيدا، كانت ابنتها التي ما اجتازت بعد عامها العاشر، عارية مرمية في الجوف العميق، عيونها مفتوحة على سعتهما تلوح رافعة يدها وكأنها تطلب عونا.

استيقظت فزعة ومسحت بيد متخشبة عينيها، تلمست جسد ابنتها الراقدة جوارها.كان العرق الدافئ يبلل ثيابها. سحبت قطعة قماش مبللة ومررتها فوق صدغ الصغيرة وربتت على كتفها.

ــ ما الذي يجعلك مستيقظة لحد الآن.

ــ لا شيء يا أمي ولكن اشعر بألم في صدري.

ــ تناولت الدواء، أليس كذلك؟

ــ أخذته في موعده.

ــ حسنا سوف تتحسن حالتك.

شعرت بكدر يلف روحها، فقد كررت هذه الجملة عشرات المرات وفي كل مرة يبدو لها هذا سيئا، ولكنها تعيد تكرارها ببلادة. كانت السنة تحتضر في شهرها الأخير، دون ما يشي لوجود جواب من مستشفى ينقذ أبنتها. رغم التماساتها المذلة وترددها المتكرر على عديد العيادات التي ما عادت قادرة على دفع أجور الفحص فيها. ولم تنفع حتى ابتهالاتها ونذورها للرب. فليس هناك في هذه المدينة النائية ولا حتى في العاصمة من طبيب يجازف بإجراء عملية إبدال أو تطبيب لقلب متهرئ. ولكنه قلب طفلة يا الهي، هكذا في كل مرة تنهي أخر أمنياتها، وتختم تضرعها ببكاء مر مكتوم.   

ــ أود أن تضميني لحضنك.اشعر أن شيئا ثقيلا ينط ويطفو في الهواء ثم يرقد فوق صدري.

سحبتها بهدوء من ذراعها الذي بدا مثل قصبة خاوية وضمتها إلى صدرها وراحت تهدهدها وهي تطالع سقف الغرفة بعينين زائغتين مبتلتين.

ــ  أمي.. هل يعيد الله الموتى إلى الحياة مرة أخرى؟

ــ ما الذي يجعلك تفكرين هكذا؟

ــ لا شيء فقط أردت أن اعرف لماذا يموت الناس والى أين يذهبون.

ــ الموتى يذهبون إلى السماء، هناك تكون لهم حياة أخرى أكثر سعادة وفرحا.

ــ ألن أعود لحضنك يا أمي؟