(خَيارات الورثة)
ليس من العدالة أن يُقتل إنسان لأنه فقير، وليس من الانصاف أن يُبقى طوال حياته فقيرا !
وُلد عبد السيّد جبر في بيت لا يعرف من الحياة سوى الفاقة، بيت بالكاد يملك لقمة العيش، فكيف له أن يدخل المدرسة وهو الاخ الاكبر؟ كان يسأل نفسه في صمت:
«لماذا وُلدت فقيراً؟ أهذه عدالة الله في خلقه؟ مَن يقسم الأرزاق بين الناس؟»
أدرك مبكراً أن هذا قدره العاثر، وأن المدرسة لن تكون طريقه، فبداء العمل وهو في الثانية عشرة، يعمل عاملاً في البناء ليعين والديه اللذين ينتظران منه كل يوم ما يسدّ رمقهما.
كبر عبد السيّد وهو يواجه الدنيا بعاطفة أكثر من العقل، ربما لأن الفقر حرمه من خبرة الحياة ومن توازن التفكير، فكان اندفاعه هذا سبباً لكثير من المتاعب.
في الخامسة والعشرين، ألحّ على أهله بالزواج، أو لعلّهم هم مَن دفعوه إليه. تمّ الزواج، وجاء الأولاد، لكن البيت لم يحتملهم جميعاً، ولا المال كان يكفي حتى يفتح لهم باباً آخر. طلبت الزوجة أن تخرج من بيت الأهل، ولم يكن يملك المال للخروج من البيت، فاشتعلت الخلافات.
ومع أول فرصة عمل في البلدية سائقاً، استأجر بيتاً صغيراً، لكن ضيق الرزق وسوء التدبير جعلا الحياة أكثر قسوة. صار سريع الغضب، عصبي المزاج، فانهار الزواج أخيراً.
مضت السنين... عبد السيّد تجاوز الخامسة والأربعين ولم يملك بيتاً. عاش في بيت طيني بالإيجار، غرفتين في حيّ الرحمانية، حتى إذا أشرقت أيام التقاعد، وجد نفسه براتب لا يسد جوعه ولا ثمن دواء لقرحته التي أنهكته. لجأ للعمل في علوه المخضر في مدينة الثورة، يقطع المسافات ليأتي بلقمة لا تغني ولا تسمن.
ثم جاء الفرج المشوب بالعار؛ بيت من غرفة واحدة على أرض متجاوزة في منطقة الشماعية سنة 2008.حيث كان شيخ متنفذ في الدولة، اغتصبَ أراضٍ تابعة للدولة ثم باعها على الفقراء ليكسب أصواتهم.
قال عبد السيّد لنفسه:
«أربعون عاماً وأنا أضرع لربّي في كل صلاة أن يرفع عنّي هذا البلاء، فلم أجد إلا الصمت. لم أعد أطلب
الجنة، فهي لا تشبع جائعاً.»
(...*لا تصلي لرب قاس أنكر عليك حياة الامل...ولا تطلب الموت رحمة)
مضت الأيام، كبر أولاده الثلاثة، وانفضّوا عنه إلا في سنواته الأخيرة، بعد أن جاوز الستين، حين وجد نفسه في عزلة قاتلة، لا رفيق له سوى المرض. فجأة لاحظ زيارات أبنائه تتكرر. سأَلهم يوماً:
– زياراتكم هذه تفرحني، لكن لماذا كثرت في الآونة الأخيرة؟ هل جئتم لتساعدوني؟ فأنا بحاجة للطبيب والدواء. ثم أضاف مبتسماً بمرارة: صحيح أني لم أترك لكم شيئاً، فما عندي ورث تقسمونه.
ردّوا جميعاً بضحكة خفيفة:
– لا بابا...! عندك ورث... البيت!
تجمّد الرجل في مكانه، وقال بغضب مكتوم:
– أي بيت؟ هذا من بيوت الحواسم! يعني حرام أوزّعه عليكم!
قال الابن الأوسط ببرود:
– بابا...( مو ...أنتَ أخذته بالحرام...)؟
تنهد الأب قائلاً:
– هذا ذنب الشيخ الحرامي اللي باعه إلنا، ( مو ...ذنبي).
تدخل الابن الأصغر:
– بابا...، الله يخليك، العمر طويل، بس أنتَ تعرف وضعنا متعب.
تأمّلهم عبد السيّد طويلاً، ثم قال بصوت متعب:
– إذا أنتم راغبين بوراثة أبيكم، فأجبوني عن سؤال واحد:
إذا أردتم أن تعيشوا في هذه الحياة، فأي حيوان تختارون لتكونوا مثله؟
قال الأصغر بلا تردد:
– الخروف.
– ولماذا الخروف؟
– لأنه وديع ومطيع، مثل حالنا، لا نؤذي أحداً، فقط نصيح إذا جُعنا!
ابتسم الأب بمرارة، ثم التفت إلى الأوسط:
– وأنت؟
– الذئب.
– ولماذا الذئب؟
– لأن الحياة صعبة، يا أبي، والناس ما ترحم. لازم أكون قوي حتى لا يضيع حقي.
التفت الأب إلى الأكبر، وقال:
– وأنت، كبير القوم؟
– أنا أختار الأسد.
– ولماذا؟
– لأن الأسد له هيبة، الكل يخافه. آخذ حقي بالقوة، سواء كان لي أو لا.
أطرق عبد السيّد رأسه طويلاً، ثم قال بدمعة حبيسة:
– ولدتُ فقيراً، وعشتُ فقيراً، وسأرحل بلا شيء. أعتذر لكم... لكن اعلموا أنكم اليوم تشبهون ذاك الشيخ الذي باعني الوهم، وسرقني تحت ضوء الشمس. صرنا جميعاً نسرق... لنعيش!
---------------------------------------------
أرنستو «تشي» جيفارا (14حزيران 1928 - 9 أكتوبر 1967)