في تلك اللحظة الاستثنائية التي لم يشهد قلبي مثلها من قبل، وجدت نفسي، أنا الطفلة، الابنة البكر، محمولة بين ذراعي أمي كما يُحمل الخروف إلى الذبح. وضعتني في وسط باحة الدار، باتجاه القبلة، والدهشة تلفّني من رأسي حتى قدميّ. كان جسدي الطفولي الغض يرتجف كغصنٍ في مهبّ ريحٍ عاصفة، فيما صرخة أمي دوّت كالرعد المزمجر، تخلع سكون المكان، وتنقشع في فضاء الدار كحريقٍ لا يُطفأ:
"أقسمتُ بالله العلي العظيم، إن نجا حسين من الإعدام، لأجعلنّ ابنتي هذه قربانًا له... نذرًا لا رجعة فيه! وليشهد الجميع على قسمي!"
كان الصوت متكسّرًا، متهدّجًا، يتناوب فيه النحيب مع الرجاء، وفيه من الانكسار ما يقطع نياط القلب. لم أكن أدرك حينها معنى القربان ولا أسرار النذر، لكن قلبي الصغير أحسّ أن هناك فجيعة عظمى تضرب صدر أمي، وأن شيئًا جللاً يُوشك أن ينتزع من البيت دفأه ومن عينيها نورها.
كان ذلك في اليومٍ التاسع عشر من شباط المشؤوم عام 1963، يوم ارتجّت فيه جدران البيت بخبرٍ كالصاعقة: اعتقال حسين، ابن عمة والديّ "مكية"، الذي لم يكن مجرد قريب، بل كان الأخ والسند، سلام عادل، القائد الذي التهمت أقبية "قصر النهاية" جسده تحت سياط البعث. حين وصل الخبر، كان البيت كله ينوح، لكن من تحطّم حقًا وحتى النهاية كانت أمي. سقط قلبها على عتبة الباب كزجاج مهشّم، وغرقت في بحرٍ من الألم، كأن السنين كلها اجتمعت لتثقل كاهلها وتنتزع منها نصف روحها.
حسين بالنسبة لها لم يكن ابن عمّة وحسب؛ كان ظلّها وملاذها، بل كان وطنًا صغيرًا احتمت فيه من برد الأيام وقسوة الأقدار. عاشت في بيتهم طفولتها، وجدت بينهم الحنان الذي حُرمت منه في بيت والدها، وتذوّقت دفئًا لم تعرف له شبيهًا. كان يدعوها باسمٍ خاص، يخرج من فمه كأغنية: "أولي". كان يرفعها عاليًا نحو السماء، يقذفها إلى الحلم ويلتقطها بذراعيه بحنوّ من يخشى على حلمه أن يتكسّر.
لهذا لم أستغرب أن تزلزل صرختها أركان الدار في ذلك اليوم. لم تكن صرخة نذرٍ فقط، بل كانت صرخة من فقدت نصف كيانها، صرخة أمٍّ ترى الموت ماثلًا أمامها في صورة غياب، وترى العالم ينهار دون أن تجد يدًا تلتقطها.
كنت ممدّدة هناك في باحة الدار، لا أفهم معنى أن أكون قربانًا، لكنني شعرت بثقل الكلمة كأنها جبل جثم فوق صدري. شعرت أنني، بجسدي الطفولي العاجز، قد تحوّلت إلى مرآةٍ لألمٍ أكبر مني، إلى شاهدٍ حيّ على مأساةٍ لا تسعها اللغة. رأيت أمي بوجهها الأبيض وقد تحوّل إلى زرقةٍ داكنة، كأن الحزن نزف دمها وأطفأ نورها. في عينيها كان الرماد يختلط بالسواد، وفي نظرتها انطفأت الحياة.
ذلك المشهد لم يغادرني أبدًا. ظلّ يحفر نفسه في أعماقي كشاهدٍ لا يموت، يطلّ برأسه كلّما سمعت اسم "سلام عادل"، أو كلما أبصرت ملامح أمي وهي تجاهد لتخفي وجعًا لا ينطفئ. كان قسمها يتردّد في أذنيّ على الدوام، كأنه يُتلى الآن، يجلجل في داخلي، يذكرني أنني لم أعد كما كنت: طفلة عابرة في طريق الطفولة، بل صرت قربانًا حيًّا، شاهدةً على حكايةٍ يتشابك فيها الفقد بالفداء، والخذلان بالعظمة.
أن تُقدّم أمّ ابنتها قربانًا، أي وجعٍ هذا الذي يضيق به التعبير؟ لكنه أيضًا أسمى صور العطاء، ذاك العطاء الذي لا يُقاس بالهبات ولا بالكلمات، بل يُقاس بما يُنتزع من القلب ويُراق من الروح.
كان قسمها انفجارًا داخليًا هائلًا، صراعًا بين الحب والخوف، بين الأمل واليأس، بين الحياة والموت. لم يكن موجّهًا لله وحده، بل كان تحديًا للموت نفسه، وصرخة احتجاج على قدرٍ جائر، وصوت أمّ تواجه بضعفها جبروت السلطة وقسوة المصير.
مضت السنوات، كبرتُ أنا، لكن الندبة لم تندمل. ظلّ المشهد يسكنني كأغنية حزينة لا تخبو، يرافقني في يقظتي ومنامي، يُضيء حزنًا في أعماقي ويمنحني في الوقت ذاته دفئًا غريبًا، دفء الانتماء إلى حكايةٍ أكبر من ذاتي. صرت امرأة تحمل بين أضلاعها قلبًا موسومًا بذاك القسم، قلبًا يفيض بالحنين والألم والفخر معًا.
إن كنتُ قد نجوت من النذر، فإنني لم أنجُ من أثره. صرت شاهدةً عليه، ممهورةً بخاتمه، أحمل حكايته كروحٍ تتردّد في صدري، كدمٍ ينساب في عروقي، وكإرثٍ لا يزول. كنت قربانه، وكان هو قربان الوطن... بطلاً واجه الموت بصلابةٍ نادرة ليمنح للحياة معنى آخر.
وهكذا، بقيت صرخة أمي، مثل قنديلٍ في العاصفة، تضيء ما بيني وبينها، وتذكّرني أن الوجع حين يبلغ أقصاه، يتحوّل إلى تضحيةٍ لا تشبهها تضحية.
**