في  العاصمة اللبنانية (بيروت) قبل حصارها من قبل قوات الغزو الاسرائيلي عام 1982، كان المنفيون العراقيون يتواجدون بكثافة في منطقة "الفاكهاني"، حيث تقع مكاتب منظمة التحرير الفلسطينية. وكنت حينها اعمل صحفياً في جريدتها المركزية "فلسطين الثورة"، التي كان مقرها يقع على شارع (عفيف الطيبي) المشهور بمقهاه المسمى "مقهى ام نبيل" العاج برواده الدائميين من الكتاب والفنانيين والصحفيين العراقيين ومن بينهم فقيدنا الغالي وليد جمعة..

 يومياً امر من هناك وتقع عيناي بعينيه فأسلم عليه وأمضي.

 ناداني ذات يوم وسألني: هل تعرف اسمي؟

 قلت له: نعم.. وانا من قراء شعرك وكتابتك المشاغبة القليلة.

 فقال الست من رفاق علي عبد الخالق (وهذه كنية القائد الحزبي انذاك وصاحب مؤسسة "المدى" للإعلام والثقافة والفنون الاستاذ فخري كريم زنكنة)؟

 اجبته : نعم.

 قال : الم يبلغوك بعدم التعامل معي؟

قلت: بلغوني.

 قال : ليش لعد تسلم علي رب الحلو؟

 ابتسمت وقلت: لأن مسؤولي سيد من اهالي كربلاء المقدسة ويتفهم بأن السلام لله..

 ضحكنا .. وقبلني .

صادف اثناءها مرور الشاعر صادق الصائغ فقال: ها وليد شتريد من قسومي؟

اجابه: هذا ابني العاق.

وضحكنا نحن الثلاثة ومعنا من سمع الحوار، فسألته: زين اذا اني ابنك العاق انت منو لعد؟

فقال ببديهيته المعهودة، وهو يمسد شاربيه الكثين: اني ابوك النغل. وانفجرنا ضاحكين.

 تمر هذه الايام الذكرى العاشرة لرحيل وليد جمعة الشاعر الترف والانسان المشاكس، الذي أبى ان لا يفارقنا.. فرغم مجافتنا له كتب مقالة بعنوان "الورطة" نشرت على الغلاف الاخير من مجلة "الهدف" الفلسطينية عهدذاك، يلوم بها نفسه المحبة للعراقيين، الذين ابتعدوا عنه وعن شتائمه التي ما انزل الله بها من سلطان!. ولكنه عاش معنا وتحمل معاناة حصار بيروت القاسي والمر، واستمر يوزع تعليقاته الشيقة ويشحذ همم المقاومين اللبنانيين والفلسطينيين والعرب الصامدين بوجه الآلة الجهنمية العسكرية "الاسرائيلية"..

لقد غادرنا وليد ليلة يوم الجمعة الموافق يوم الثامن عشر من ايلول عام 2015 في أحد مستشفيات العاصمة الدنماركية (كوبنهاغن) إثر مرض عضال. وعرف الراحل بانه واحد من وجوه الثقافة العراقية، الذين اضطروا لمغادرة العراق مثل آلاف آخرين في نهاية سبعينات القرن الماضي، عندما كشرت الدكتاتورية الصدامية المقيتة عن انيابها. وعاش في منافٍ شتى في بيروت ودمشق ولندن وأخيراً كوبنهاغن. وينتمي فقيدنا الى جيل مثقفي الستينات، الذين اكتسحوا الساحة الادبية بثقافتهم الواسعة واغنوا المكتبة العربية باجمل الاعمال الشعرية والقصصية والروائية، الا هو كان مقلاً بنشر نتاجه الابداعي، فلم ينشر سوى قصائد قليلة في حياته، لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة، لكنها علقت في أذهان الكثير من مجايليه وقرائه لاختلافها عن السائد، ولسخريتها اللاذعة من كل شيء، خاصة من الواقع السياسي العراقي منذ الستينات، هذا الواقع الذي بقي وليد جمعة خارجه وداخله في آن، حسبما يؤكد ذلك الكثير من زملائه واصدقائه المقربين.

في قصيدته الشهيرة «العبئريون»، التي كتبها في الثمانينات، تنبأ بموته في المنفى ورثا نفسه يقول:

"سيرثونني

ملثمٌ بالموت

عندي مراسيم لدفني من يد القابلة

أقيس مسرى قدمي بينه

وبين جذب الأرض للسابلة.

أنا الذي لا أحذق القهقهة

أفقأ عين الفرح المشبوه إذ يرتقي

سطح مناخاتي ويعتادها

وعندما تغشّني غبطتي

قد أفرك الأيام من أذنها

أخبرها

- غبَ التقاء الشمس بالمزولة:

كوني كما أنت.. رداء الشجن

وخطوة تعبى على مفرقٍ مرتطمٍ بالجنون

حذار أن تألفي

وشوشة المهد، ففي عصرنا

يتأتئ المولود، يحبو، يرى

سرتّه في رحم المقهى

حيث يحزّ الأرض.. يجتازها

في دولة الشوارب الكثة

*******

ملثمٌ بالموت

عندي له: عدّته البغيضة الرثة

زجاجةُ السمّ ومرثيةٌ

- ملحوظة عن عتعتات الزمن -

شخصٌ سيستجدي نقود الكفن

سبعة أشخاصٍ يجرونني

(سبعتهم على الرغم مني.. رفاق..!)

لكنني تعوزني حفرة

في أيما مقبرةٍ

في العراق".

ونعاه صديقه في المنفى الدنماركي ورحل من بعده الشاعر سهيل فاضل المعروف بأسم (ئاشتي) :

"وليد الفتى المتمرد

رحل الفتى المتمرد

رحل العبثي الجميل

رحل الذي يختلف معك ولكنه يبكي لحزنك

رحل الذي لم يعرف من الدنيا غير هذا العراق

رحل الذي يحب اصدقاءه بصدق طفولي

رحل الليلة وليد ابن جمعة

في هذا المساء الشفيف...حيث العراق يئن جريحاً

قرأ قصيدته الأخيرة على جثته الممدة في مستشفى (بسبياو)

ربما أراد أن يقول شيئاً أخر

أو ربما أراد أن يشتم الحكام كعادته

لم يفكر بالغد

هو ابن اللحظة الطويلة الزمن

هو الغارق في التمرد

وهل هناك أحلى من التمرد في زمن أعمى

رحل وليد .. في مساء كوبنهاكيني موحش

لانه يدرك قبل رحيله

أن الغربة أرض قاحلة موحشة.

والرحيل في هذا الزمن موحش أكثر منها

مع هذا رحل هذا المساء".