قصة قصيرة
هادي (أبو القواطي)
خرج هادي من خلال الباب الحديدي لحديقة الدار، صرير الباب خلفه يتناغم وحركة مفاصل قدميه تحت ثقل جسده البدين، سنوات عمره الستيني هرمت مبكراً لقساوة الحياة التي تركته وحيداً بلا أهل، لم يتعود أن يضع قفلا على الباب، رغم انه المؤتَمَن كحارس لتلك الدار الحديثة، والتي خلت من اصحابها لسبب ما،
زاد من ثقل جسده المتعب، معطف سميك غاب لونه بين القتامة ولون التراب، المعطف لا يفارقه حتى عندما يتوسد ليلاً أرض الحديقة بين الشجيرات،
يتدلى حول رقبته خيطان طويلان، رُبطت الى نهايتيهما اربع علب صفيح (قواطي) فارغة متوسطة الحجم، مع ترنح جسده تتصادم العلب ببعضها محدثة قرقعة تلفت انظار المارة،
عند نهاية الشارع الفرعي وعلى الرصيف، وقف شاخصاً بعينيه نحو اليسار، مرت السيارات من امامه مسرعة على الطريق العام، انتهز خلو الشارع ليواصل دبيبه بأتجاه جسر مُشاة يقطع نهر العشار، بمنتصف الجسر اسند جسده واضعاً يده اليمنى على السياج الخشبي المقرنص الاخضر اللون، رفع عينيه بتثاقل مرسلاً بصره ليمتليء المشهد بأشجار اليوكالبتوس الشاهقة والممتدة على حافتي النهر، كانت حركة الماء في حالة المدّ سريعة، تحت صفحته الملساء الصافية تتراقص انواع مختلفة من الاسماك، تظهر وتختفي تحت كتل من نبات (الشلنت) الطافية.
اقترب منه صبي قائلاً:
ـ عمّي... اتريد ان اساعدك لتعبر الشارع؟
أجابه بصمته المعتاد ومدّ يده للصبي، إجتازا الشارع الثاني بعد أن هبطا من على سلّم الجسر، ودعه الصبي ليواصل هادي سيره ببطء قاطعاً ساحة كبيرة رُشّ ترابها بالنفط الاسود ليتصلب، إنحرف يساراً الى شارع تراصفت على جانبيه بيوت لبست حلّة الثراء، كوّرَ جسده المنهك عند زاوية باب حديدي كبير.
ـ ألــلـّـــه أكبــــر......ألـــلـّـــــه أكبــــر...... دوى صوت مجلجل لمكبرات الصوت، فتردد صداه بين الجدران، تطايرت العصافيرمرعوبة من اشجار حديقة الدار، اجنحتها المرفرفة بقوة هيـّجت عطر ورد الياسمين المتدلّي على طول الجدار.
ـ دم ...دم ...دم...، ضرباته الواهنة على الباب، إرسلت اشارة متميزة لخادمة الدار،
مدّت يدها من خلف الباب دون أن تسمح لأحد أن يراها، تناولت علب الصفيح لتعيدها بعد لحظات، إثنتان مملوئتان بالرز المطبوخ وإثنتان بالحساء،
سكب الحساء من احدى علب الصفيح في اخرى للرز، مد يده فيها ثم رفعها الى فمه مع جمهرة من الذباب الذي إعتاد مشاركته طقوس الحفل هذه،
نهض باعجوبة بعد أن توقف جريان الدم في رجليه، سلك نفس الطريق عائداً لتلك الدار مثل
رقاص ساعة عفى عليها الزمن ومّلَّ الناس من التطلع اليها.
عبد الرضا المادح
2009.01.22
البصرة