نوتنغهام
تستوعب رواية (خلع الخاتم) للكاتبة السيدة سعاد الراعي حدثا مهما وحساسا عانى منه المجتمع العراقي، ومازال يعاني منه إلى الآن بكلّ أشكال المعاناة وقسوتها من قتل وتشريد وتشتت ألا هو موضوع الطائفيّة الذي استهلك المجتمع العراقي بعد سقوط الدولة عام 2003 ولا زلنا نعاني من تبعاته حتى اليوم.. وحين أطلقتُ صفة رواية على (خلع الخاتم) مع كونها أكثر من 10000 آلاف كلمة فإنّ لي وجهة نظر في مفهوم الرواية على وفق عدد حروفها، فالرواية حسب وجهة نظري هي ما تعالج حالة مجتمع ما ضمن إطار زمني طويل بغض النظر عن عدد كلماتها، فإذا ما جاءت بحدود 4000 - 6000 كلمة فهي رواية جيب، وإذا ما جاءت بحدود 8000 كلمة وأكثر فهي رواية قصيرة
لذلك أطلقت على (خلع الخاتم) رواية، وقد توفّر فيها أكثر من عنصر لجعلها رواية:1
أوّلا تتحدث عن مجموعة من أفراد المجتمع العراقي ينتمون لفئتين كبيرتين حسب مفهوم فقهي قديم (سنة، شيعة) ثانيا: الزمن هو زمن رواية بطوله الممتدّ من انفجار الأحداث إلى وصول البطلة إلى بر الأمان وليس زمن قصة قصيرة أو قصّة طويلة.
ثالثا: هناك أكثر من شخص: البطلة، طفلتاها، المرأة المساعدة. أخ الزوج.. المهرّب.. الأهل.. الأخ...
رابعا: استندت الكاتبة في تناولها الأحداث إلى أسلوب السرد الروائي.
من هذا المنطلق صنّفتُ عمل السيدة سعاد الراعي ضمن الرواية القصيرة ولم أقل إنّها قصة طويلة.
لقد زاوجت الكاتبة في روايتها بين الأسلوب الواقعي، وأسلوب الواقعيّة المستنيرة الذي كتبت فيه عددا من الروايات.2 إنّ الموضوع الذي اختارته الكاتبة هو زمن بداية العنف حين انفجر بعد الاحتلال الأمريكي للعراق، القتال بين السنة والشيعة وقضيّة الانتقام إذ يمكن أن نشبّه المجتمع العراقي بمكوناته الدينية والقومية بقوس قزح: أيّ تجاوز على أيّ لون يلغي القوس كلّه.
هذه النقطة الحساسة أضفت على الرواية بعدا نفسيّا تمثّل في موهبة الكاتبة وطريقتها في المزج بين الواقعية والواقعية المستنيرة إذ صورت بقلمها المحيط الخارجي بدقة متناهية مثلما تفعل لا لكي تصف فقط إنّما لترسم مثلما يفعل المصور بعدا مثيرا لحالة البطلة الضحية وعبر الوصف الواقعي نقلت إلينا نفسية
الضحية والجزّار بل هي نفسية مجتمع هائج مثل الثور
لكنه ثور لا يقتل المصارع الذي أدماه بل يقتل نفسه:
لقطة من هياج المنتقمين:
"غير أنّ الكلمات تأخرت، والأيدي سبقتها بعنف صاعق. انهمرت اللطمات والركلات على وجهها كالمطر الأسود، وانغرست قبضاتهم في جسدها الضعيف، بينما كانت صغيرتاها تصرخان في هلعٍ يضاعف عجزها. تحوّلت اللحظة إلى دوامة من الألم والضجيج، والبيت إلى ساحة حرب بلا رحمة."(ص 2)
اللقطة أعلاه وصف دقيق للعنف المتمثل بهياج المجموع أو العقل الجمعي الذي يسيره العنف لا الفكر والتأمل، لقد استوعب الوصف في الرواية منذ البدء العنف لانّ الخارج تسوده روح الانتقام ولا أحد يفكّر بعقله، يقابل ذلك وصف داخلي، وصف لحالة الضحيّة التي تتحدث عن مشاعرها، هواجسها داخل إطار الرعب:
كانوا يريدون غسل دمه بدمها، تحويلها إلى شاهدٍ إضافي على أسطورة الثأر، إلى ذريعة جديدة تديم دورة الانتقام، كأنها ليست إنسانة من لحم ودم، بل مجرّد رمزٍ تُقاد إلى الذبح. شعرت أن الجحيم قد فتح على مصراعيه فوق رأسها ورأس طفلتيها، وأن لا منفذ للخلاص."(ص 4)
والمتتبع للرواية حتى آخر صفحة يجد أن الوصف الخارجي يتوازى مع الوصف الداخلي بوصف الإثنين مسارين متوازيين، يكاد توازيهُما يشكلّ اندماجا يزيد الرواية تألقا وتماسكا.
فليس الوصف الخارجي لمجرد الوصف والاستعراض البلاغي بل يأتي ليمهّد لعوالم الإثارة والتعبير عن الحياة بصورة أدقّ مما تراه العين وتسمعه الأذن. ولعلّني يجب أنّ أذكّر أن الأسلوب الواقعي يبدو سهلا لكنه سهل ممتنع إن لم يكن الكاتب الروائيّ القاصّ ذا موهبة وخبرة فإنّ السرد الواقعي عنده يتحوّل إلى كلام مباشر ضعيف ومما تجدر الإشارة إليه أنّ الكاتب العربي الوحيد من الرواد المعاصرين الذي استطاع أن يتحكّم في السرد الواقعي هو نجيب محفوظ بلا منازع في حين سقط كتاب كثيرون معاصرون له في المباشرة وبخاصة كتاب الواقعية الذين عاصروه في مختلف البلدان العربية ومنها العراق وهنا لابدّ من أن أشير إلى أنّ الكاتبة السيدة سعاد الراعي تجاوزت باقتدار قضيّة المباشرة لتكتب بأسلوب واقعي رصين.
أمّا استخدام أسلوب الواقعيّة المستنيرة فنجده يتحقق في كثير من المشاهد وقد لفت نظري أنّها تنتقل بمهارة من الأسلوب الواقعي إلى أسلوب الواقعية المستنيرة بشكل حسّاس حين يتطلب المشهد التحوّل:
"وبينما كانت تُضرَب وتُهان، راودها خاطر مرّ كالسكين"... أسلوب واقعي
بعد الفقرة نجدها تضع العبارة التالية بين قوسين:
«أنّها لم تمت بعد، لكنها في نظرهم قد ماتت بالفعل؛ ماتت كإنسانة، ولم تبقَ سوى جسدٍ يُنهش ليُشبع عطش الطائفة للانتقام.»
الفقرة نفسها كتبتها بحبر غامق لأنها أسلوب آخر، أسلوب واقعي يتخذ شكلا موازيا لما سبقه من تعبير ويختلف عنه، ولنا مثال آخر، حيث لا يترادف الأسلوبان أي أن يأتي الواقعي قبل الآخر لكنْ يتقاسم الأسلوبان الفقرة ذاتها كما نجده في الفقرة التالية:
"مدّ يده عبر الفجوة بينهما، ودفع بالشاحن نحوها. لحظتها، أحست عفراء كأنها عبرت جسرًا خفيًا بين زمنين:"
وحين تنتهي الفقرة الواقعية تطل علينا بعد النقطتين فقرة أخرى بين قوسين تختلف في صياغتها الواقعيّة
«زمنٍ كانت فيه مرعوبة تتوسل النجاة، وزمنٍ جديد تستعيد فيه إرادتها المسلوبة.»
إنّ الفقرات المرسومة بخطّ ثخين هي أسلوب واقعي يختلف عن الأسلوب الواقعي التقليدي، وبهذه الطريقة حقّقت الرواية نضجها وجمالها وتأثيرها في الوقت نفسه رسمت ملامح مجتمع متباين وكشفت عن نفسيته: برقته وعنفه، كلّ ذلك ورد بعبارات موجزة واقتصاد في السرد كما يطلق عليه النقاد المحدثون.
1 الحدّ الأدنى للرواية على الأرجح 50000 وبعضهم يرى 80000 كلمة وهذا الحكم أوروبيّ بحت لكنّ عصرنا عصر سرعة ويمكن لعمل سردي أن يعبر عن مرحلة ما بعدد أقلّ من الكلمات.
2 اول رواية كتبتها هي الساعة الثامنة والنصف وقد استحسن بعض النقاد منهم د عبد الرضا علي والدكتور صالح الرزوق والدكتور عبد الرحيم مراشدة استحسنوا هذا التجديد المنهجي في الرواية الواقعية.