هلسنكي

نشرت في ثقافية المدى البغدادية عدد يوم 28 تشرين الثاني 2025

من أهم العروض هذا العام، ونالت الاهتمام، كان أوبرا إليكترا، للموسيقار وقائد الأوركسترا الألماني الشهير ريتشارد شتراوس (1864- 1949)، الذي يعتبر من مؤسسي المدرسة الحديثة التي أثارت ضده المحافظين، لكونه مفكراً حراً، ويعتبر العديد من النقاد الموسيقين أوبرا إليكترا، الحكاية الدموية، التي عرضت لأول مرة عام 1909، لا تزال عصرية بشكل مذهل، وتثير الاعجاب بقوة تأثيرها، إذ كانت حدثًا بارزًا في عصرها، ولا يزال مزيجها من الوحشية والحساسية لا يُضاهى.

واليكترا هي رابع أوبرا لشتراوس، أكثرها إثارةً للاضطراب، وصفت بأنها تميل لكسر قواعد التأليف السابقة، وكنا محظوظين في حضور العرض الثاني، بعد العرض الافتتاحي، وهناك، كما يشير موقع دار الاوبرا الفنلندية، اربعة عروض أخرى هذا العام.

الموضوع الأساس الذي تتناوله اوبرا إليكترا، هو الرغبة في الانتقام والكراهية العمياء وقتل الأب، وهي ثيمة تناولتها اعمال فنية عديدة، من المسرحي اليوناني سوفوكليس، مرورا بشكسبير، حتى ألكسندر دوماس وغيرهم، وتمتاز أوبرا إليكترا لريتشارد شتراوس، بالطابع التعبيري والغضب الشديد، فهي أوبرا جريمة، تنتهي بمقتل اشخاص بوحشية، مثيرة مشاعر متضاربة لدى الجمهور، فهي مُرعبة وآسرة في آن واحد، فالجو الموسيقي مظلم، مشحون بالتوتر، يعكس الجنون، والهوس بالانتقام، الذي يسيطر على شخصية إليكترا.ويستلزم عرضها استخدام أوركسترا ضخمة، فالموسيقى تزداد حدة لحظة بلحظة، وتمتد الى ساعة و45 دقيقة دون استراحة.

كتب نص أوبرا إليكترا، الشاعر والروائي والكاتب المسرحي النمساوي فون هوفمانستال، (1874 ـ 1929)، الذي يعتبر واحدا من أهم ادباء الحداثة للأدب الناطق بالألمانية في نهاية القرن التاسع عشر. مستلهما مسرحية تحمل الاسم نفسه كتبها سوفوكليس، حيث تنحدر شخصيات العمل الرئيسة من عائلات حاكمة يسود فيها جو القتل والانتقام.

اشترك في العرض الباهر، الذي شاهدناه، نخبة من أفضل العازفين المنفردين في عالم الاوبرا، مع أوركسترا بأكثر من مئة عازف، مع استخدام مكثف للآلات النحاسية والإيقاعية لإبراز العنف الدرامي.

 سبق وقدم العرض آخر مرة في هلسنكي عام 2016 أمام جماهير غفيرة، ونال العديد من الجوائز، فهو آخر اعمال مخرج الاوبرا الأسطوري الفرنسي باتريس شيرو (1944-2013)، ويعاد حاليا تقديمه في فنلندا، وفق ذات الخطة الاخراجية، باشراف بيتر ماكلينتوك، مواليد كاليفورنيا، الذي قدمت اعماله على مختلف مسارح دول العالم، وهي المرة الحادية عشرة التي يُخرج فيها ماكلينتوك أوبرا إليكترا منذ عرضها الأول في فرنسا عام 2013 .

في الاوبرا عاد والد إليكترا، أجاممنون من حرب طروادة، فقتل على يد والدة إليكترا، كليتمنسترا، وعشيقها ثم زوجها الجديد إيجيسثوس. وكان أجاممنون، بدوره سبق وقتل زوج كليتمنسترا الأول وطفلها منه، بل وضحى بابنته إفيجينيا لأسباب سياسية. فأصبحت إليكترا وشقيقتها كريسوثيميس تفتقدان والدهما وتحزنان عليه. تحاول كريسوثيميس نسيان معاناة الماضي، لتعيش حياة عادية، لكن إليكترا لا تستطيع تجاوز صدمتها، فهي تُقدّس والدها، وترتبط به عاطفيا وتجاهد لإخفاء ذلك وتتوق للانتقام من قاتليه. ولتحقيق خطتها، تحتاج إليكترا إلى مساعدة أختها وشقيقها أوريست، المفقود منذ زمن طويل بعد أن طُرد في صغره وتنتظر عودته كل يوم.

ويصل غريبان الى القصر يحملان خبر موت اخيها أوريست. تُدرك إليكترا، يائسةً، أن على الأختين الآن أن تنتقما لمقتل والدهما بأنفسهما. لكن الأخت كريسوثيميس تراجعت خوفًا ورفضت وغادرت، تاركة إليكترا لتتصرف بمفردها. أحد الغرباء مكث في القصر لبعض الوقت. مدعيا أنه صديق لأوريست. تضغط عليه إليكترا بالأسئلة فتكتشف ان الغريب هو شقيقها أوريست، تظاهر بموته ليتسلل إلى القصر. فصارت إليكترا ممزقة بين الفرح والحزن. تعانق شقيقها المفقود منذ زمن، لكن حزن عزلتها التي اختارتها لا يزال قائمًا. وحانت لها لحظة الانتقام حين يدخل أوريست القصر، فتستمع الى صراخ كليتمنسترا، ثم زوجها إيجيسثوس.

في العرض الذي حضرناه أدت دور اليكترا السوبرانو الألمانية ريكاردا ميربث، التي عرفت كواحدة من الرائدات في مجالها، فهي مطلوبة في جميع أنحاء العالم كمؤدية فاخرة لفاغنر وشتراوس، وكانت في 2018، قدمت أول ظهور ناجح لها بدور إليكترا في الإنتاج البارز لباتريس شيرو على مسرح ميلانو.  كانت اليكترا محور العرض الذي سيطرت فيه ريكاردا ميربث على خشبة المسرح، ولم تغادرها، فكانت تثور، تصدر همسا ثم تصرخ مثل حيوان جريح منادية بالانتقام، ساعدتها قوتها التعبيرية الجامحة للتألق طوال العرض، ورغم انها لم تكن نحيلة الجسد، لكنها امتازت برشاقة الحركة التي توافقت مع صوتها المذهل بشكل ابهر المشاهدين، وبعد نهاية العرض، وخلال تحية الجمهور، بدت ملامح وجهها الطفولية، عكس وجه القسوة والكراهية الذي شاهدناه خلال العرض.

شخصية الام كليتمنسترا، أدتها الفرنسية الميزو- سوبرانو صوفي كوخ، بدت شخصية مأسوية، فشلت في اصلاح علاقتها مع أبنتها اليكترا، وبدت مثيرة للشفقة، لكنها سرعان ما عادت متغطرسة، أما قاسية. صوت صوفي كوخ مع قوته، أمتلك شحنات حزن تدفع للتعاطف، لكن ما ان تبدأ المواجهة مع أليكترا والصراخ على بعضهما البعض، في مشهد مثير للأعصاب، يثير المشاهد قدرتها على التحكم بالصوت وكأنه سيف يوجه الضربات. دور الشقيقة، كريسوثيميس، المترددة، الحالمة بحياة طبيعية، ان تلد أطفالا وتعيش بهدوء، ادته بعاطفة كبيرة الليتوانية السوبرانو فيدا ميكنيفيتشيوتي، فبدت النقيض الانثوي لإليكترا المتعطشة للدم والانتقام، فكان صوتها مشرقا بجمال خاص. أما الشقيق أوريست فقد قدمه الفنان الفنلندي الباس باريتون سام تاسكينين، ورغم ان هذا الفنان، يعيش إشكالية كونه متحول جنسي، الى امرأة، الا انه يؤدي ادواره الرجالية ببراعة ينافس بها المغنين الذكور، فكان مذهلا في اداء دور المنتقم بصوته الدرامي العالي.

تحرك العرض وسط ديكور من تصميم الفرنسي ريتشارد بيدوزي، أمتاز بالاناقة والبساطة، فالممثلين يتحركون في باحة قصر بجدران عالية، محاطة بأبواب تودي الى خارج وداخل اقسام القصر، فلم نر بذخا ولا اثقالا في التفاصيل، وظلت اليكترا المنبوذة من أمها تتحرك في قاعة الباحة مع الخدم، حتى تحقق انتقامها فتصعد السلم الى اعلى الباحة تعبيرا عن نجاحا في الارتقاء لتحقيق هدفها في الانتقام. كانت الأزياء من تصميم الفرنسية كارولين دي فيفايز أعطت للعرض أجواء معاصرة، ولم تسع لاعطاءه ابعادا تأريخية ما، ورغم ان المعروف عن تصاميمها كونها تمتاز بالتفاصيل الدقيقة فأن الأزياء في اليكترا اتسمت بالبساطة والاناقة والوان كابية لمنح المشاهد بعدا دراميا أكبر، لكن يبدو انها اغتنمت الفرصة لتقدم لنا الام كليتمنسترا، ثم زوجها إيجيسثوس بأناقة ملوكية باردة من خلال الألوان المعتمة.

وساهمت الإضاءة التي صممتها الفرنسية دومينيك بروجوير في إضفاء أجواء كئيبة، فالمكان على العموم بدا رماديا مزرقا يجعل الشخصيات تظهر وتختفي في أجواء مؤامرة وترقب.

واشاد هانو لينتو، القائد الرئيسي للأوبرا الوطنية الفنلندية، في حديثه لوسائل الاعلام، بالعمل قائلا ان الفنانين المشتركين مثلوا أفضل ما يقدمه عالم الأوبرا في الوقت الحالي، ومن الرائع أن تتمكن الأوبرا الوطنية الفنلندية من المشاركة في إبداع هذا العمل الرائع.