(الفصل السادس والعشرون) من رواية:

(ذاكرة التراب)

نشرت الرواية في 2024

(نامق) رجل شديد اليقظة، قوي البُنيَّة، أمضى حياته مقاتلاً في التضاريس الوعرة، وفلاّحاً أجيراً في الجبال العصيَّة...لم يبرح قريته الشديدة الوعورة في أطراف (ناحية سيده كان) أقصى شمال شرق كوردستان العراق منذ ولادته رغم أنه تجاوز الأربعين عاماً من العمر...قُتِلَ والده المقاتل مع (قوات البيشمركة القومية الكوردية) ...عندما كان (نامق) في الخامسة من العمر.

وحينما استدرجت السلطة في بغداد قيادتهم إلى فخ الانضواء تحت سطوتها، وأزالت مصدر قوتهم:

موقفهم المتفرد وسلاحهم المحصن بصواب الموقف، وكشفت مخزون أسرارهم!

صار (نامق) مثل غيره صيداً طريداً في أرض مكشوفة تقتنصها بنادق السلطة أنّا شاءت... ولم يُخفَ سِرٌ في القرية الصغيرة التي يعيش فيها وما حولها...وشاع خبر بحث رجال الأمن عنه بعد أن تم اغتيال وإلقاء جثة رفيقة (مصطفى زاخوي) في الوادي...نصحه اصدقاءه أن يهرب إلى مدينة (دهوك) على الحدود التركية، ومن هناك إلى العاصمة بغداد.

وتم ترتيب كل شيء...

كان (نامق) في انتظار سيارة الـ(بيك أب) التي تنقل نسخ جريدة (طريق الشعب) من العاصمة إلى قرائها في مدينة دهوك... تأخر وصول (البيك أب) ذلك اليوم عن الموعد حتى بعد الظهر... جاءت إليه دون أن تُفرغ حمولتها في المكتبات بعد أن منعت السلطة توزيع عدد الجريدة لأنها تتحدث في مقال لها عن حملة الاغتيالات والملاحقات التي تنفذها السلطة ضد معارضيها.

رحب به السائق العجوز (أبو ثائر) ...وحَدَثَهُ عن معاناته مع المفارز الأمنية خلال الطريق...ثم أمضى (أبو ثائر) دقائق يتأمله وهو الخبير بالتهريب والاختفاء لما يقرب من أربعين عاماً...وقال له بلهجة الحائر الذي يخاطب نفسه:

سيكشفون هويتك ويعتقلوك حالما نصل إلى نقطة السيطرة الأمنية في أطراف مدينة!

شخصت عينا (أبي ثائر) التائهتان إلى ملامح وجه (نامق) اليقظة...قائلاً له:

اتبعني مشياً على الأقدام إلى ما وراء السن الصخري خلف السوق... هناك سنلتقي!

في تجويف هائل بالجبل المهيمن على المدينة أوقف السائق العجوز سيارته بصعوبة، نتيجة تساقط الثلوج الكثيف على المدينة... وطلب من (نامق) أن يُفرغ عدداً من رَصّات الصحف وسط حوض السيارة لتكون بمثابة (قبرا) له يختبئ فيه ويخفيه بالصحف وبغطاء النايلون الذي يغلف به حوض السيارة عادة اتقاء من المطر ومن تساقط الثلوج؛ وعجز (نامق) عن قرفصة سيقانه الطويلة في حوض (البيك أب) الضيق، لكنه طواها تحت جسده الضخم بصعوبة، وأحْكَمَ (أبو ثائر) الغطاء عليه؛ وانطلقت بهم السيارة سالكة طرقاً جانبية يعرفها (أبو ثائر) جيداً، بعيدة عن نقاط التفتيش... لم ينسَ (نامق) أن يدفن معه في قبره الورقي كيس قماش صغير مملوء بالخبز اليابس والزبيب... مثلما تَعَوَّد عند الاختباء في شتاء الكهوف الصخرية المنقطعة الدروب سنوات المقومة ضد السلطة.

مضت ساعات النهار تصعد بها (البيك أب) مرتفعات وعرة وتهبط منحدرات حادة، وحوض السيارة يرتطم بالأرض بقوة فيوجِعُ (نامق) وهو يَزِمُّ شفاهه بصمت من شدة الألم؛ وأسدل الليل ستارته الثقيلة القاتمة عند أطراف العاصمة... فدخلوها من رصافتها الفقيرة عبر السدة الترابية التي ظلت شاهداً على فيضانات دجلة المتكررة التي أغرقت أكواخ الفقراء وشردتهم عُراةً فوق السدة.

توقف (البيك آب) أمام كابينة خشبية حسيرة يجلس فيها قروي جنوبي كهل عند باب مطبعة الرواد حيث تطبع الجريدة... بعد أن حيّاه (أبو ثائر) بحرارة...أدخل السيارة إلى داخل باحة المطبعة...تراكض عمال المطبعة، وتجمعوا حوله يسألون عن سبب إعادته للصحف، لكنه قاطعهم مذعوراً خشية أن يجد صاحبه مُختنقاً:

ارفعوا الصحف بسرعةٍ وحَذَرٍ... هناك رفيق مُخَبَّأٌ تحت أكداس الصحف!

لم يستطع (نامق) الحركة، لتشنج ساقيه... حملوه بصعوبة ووضعوه على الأرض ليحركوها له وهو يعض شفتيه من شدة الألم...استرخى قليلاً... فوجد القروي الجنوبي الكهل يجلس عند رأسه يقدم له قَدحاً من الشاي الساخن.

عاد (أبو ثائر) من داخل المطبعة إليهم يشحط قدميه المتعبتين ومعه "عروة" الذي عاد لتوه حزيناً مهزوماً من لقائه في مبنى (الحصن) مع (سمارة)... جلسا معهما حول الموقد المتأجج على رصيف مبنى المطبعة، توهجت بضيائه ملامحهم على لوحة الظلمة... لم يطق (أبو ثائر) كتمان سِرَّ الألفة والوِدِّ الذي يَكُنُهُ لعائلة (نامق)، يتأمل ملامحه الصارمة كالمرحوم خاله...التفت إلى "عروة" يفصح له بعض صفحات أيامه الماضية مع (خال نامق)...قائلا بنبرة صوت عفوية:

كان (خال نامق) من بين مئات السجناء السياسيين بسجن الكوت في نهاية الخمسينيات، وأنا أعمل سائقاً في شاحنة نقل الطعام للسجناء كل يوم... كنت أنقل البريد السري منهم إلى خارج السجن وإليه مع قدور الطعام، وكان (خال نامق) منتدب السجناء لاستلام الطعام.

ذات مساءٍ...جاءني مرتبكاً، متوتر الأعصاب...ليس كعادته، وأبلغني بحذر وهو يستلم مني قدور الطبخ:

الشرطة اكتشفت مخبأ وثائقنا... يجب التخلص منها وإحراقها الليلة... قبل أن يشرق الصباح ويكشفوا عن محتوياتها... يجب إحراقها الليلة...الليلة دون تأخير!

سارعت إلى المدينة بحثاً عن صفيحة نفط لإحراق الوثائق بعد أن وصف لي مكان إخفائها... لم أجد بائع نفط في الليل يوفرها لي... انطلقت إلى بيت عمتي (أم زوجتي) عسى أن أجد عندهم النفط...قالوا لي:

إن عمتك ذهبت راكضة إلى بيتكم لأن زوجتك جاءها المخاض بمولودها البكر، وهي في حالة حرجة.

لكني وجدت صفيحة نفط عند جارتهم، فوضعتها في السيارة وانطلقت إلى حيث مكان المخبأ... في تلك اللحظة داهمتني هواجس لومٍ وتأنيب ضمير إن تركت زوجتي تموت دون أن أغيثها وأنقلها إلى المستشفى، فاستدرت عائدا بسرعة إلى البيت، لأنقلها إلى المستشفى وأعود لتنفيذ المهمة، لأن الوقت مازال قبل منتصف الليل.

تدهورت حالتها في المستشفى، واجتمع حولها الأطباء والممرضات قلقين...كنت ممزقاً بين مشاعر الندم التي ستقتلني إذا تخليت عنها في محنتها، وبين التسبب بكارثة للآلاف من الوطنيين إذا وقعت تلك الوثائق بأيدي الشرطة.

كنت أروح وأجيءُ حائراً مذعوراً بين صفيحة النفط في الشاحنة، وبين سرير زوجتي التي لم ينقطع صراخها الذي يمزق نياط قلبي؛ ومع بزوغ الفجر...انقطع صوتها فجأة...هرعت مرعوباً نحو غرفة الولادة...فانطلقت صرخة ولدي البكر "ثائر" ...هويت على الأرض خائر القوى بين البهجة بالمولود والخوف على زوجتي... طمأنتني القابلة المأذونة:

الأم والمولود بخير!

ودون أن اراهم...انطلقت بالسيارة بأقصى سرعة...ويدي على علبة الكبريت...كي أستَبِقَ وصول الشرطة السرية إلى مخبأ الوثائق...واجهتني مجموعات من الرجال والنساء والأطفال تخرج في الغبش من البيوت وتركض باتجاه المقهى الكائن في مفترق الطرق...حيث يحتشد الناس هناك حول جهاز الراديو الوحيد في القرية...يستمعون الى البيان الأول لثورة الرابع عشر من تموز 1958!

تحولت ملامح الفلاح الجنوبي (أبو شمخي) مسامعاً وعيونه شاخصة إلى شفاه (أبي ثائر) ...متماهياً مع الزمن الأثير على نفسه الذي استحضره (أبو ثائر) ...

وما أن توقف (أبو ثائر) عن الكلام حتى صاح به (أبو شمخي) محذراً:

هل أحرقتها؟!

التفت إليه (أبو ثائر) بنظرة اعتراض ورفض للتشكيك بعقله:

أقول لك ثورة تموز...وأنت تسألني...هل أحرقتها؟!

واصل (أبو ثائر) حكايته:

نعم ذهبت إلى المخبأ لأطمئن عليه، فوجدت رجالاً لا أعرفهم سبقوني إليه وجلسوا هناك لحراسته.

استرخى (أبو شمخي) الفلاح القادم من "قرية أم النعاج" في عمق أهوار مدينة العمارة متكئاً على جدار قاعة المطبعة، يُقَلِّبٌ وجهه بوجهه (نامق) المُتعب...انقبضت روحه وهو ينظر إلى "الخال" في ذقن (نامق)...ذات الخال في ذقن أخيه (مجذوب) الذي أعتقل في انقلاب شباط عام 1963 واختفت أخباره في قصر النهاية.

استعاد(نامق) بعض حيويته...

كانا حائرين في جلستهما، لا القروي الجنوبي (أبو شمخي) سبق أن تحدث مع كوردي ولا الكوردي بلهجته البهدنانية سبق أن التقى شخصاً يتحدث العربية باللهجة العامية الجنوبية.

ذات نهار تجمع عمال المطبعة وراء النافذة المطلة عليهما يراقبانهما باندهاش من وراء الزجاج وهما يضحكان تارة وأخرى يتجهمان دون أن ينقطعا عن الحديث...لا أحد منهما يعرف ما يقوله الآخر... لكنهما واثقين من مقاصد كل منهما تجاه الآخر، ومطمئنين لصفاء نوايا كل منها نحو الآخر...كل حديث يَضحَكُ له المُتحدثُ يشاركه صديقه المُستَمِعُ الضحكةَ، وعندما يكتسح الحزن وجه أحدهما وهو يبتلع ريقة بكلمات متحشرجة يدرك الآخر إن مُحَدِثَة انزلق في سيرة الألم ومحطات الحزن ، فيكتسح وجهه الحزن من قرارة روحه هو الآخر... لم تمضِ إلاّ أيام قليلة حتى فوجئ عمال المطبعة بأن حارسهم الجنوبي (أبو شمخي) يحييهم في الفجر بلهجة كوردية بهدنانية مكسرة المتن والمخارج.

كان مسؤول المطبعة (صلاّل الانباري) القائد "الأنصاري" السابق حائراً بأمر(نامق) ...لأنه يعرف الّا مهارة لديه غير القتال في الجبال أو زراعة الكروم على سفوحها... مثله تماماً لا شأن له بالمطابع والصحافة لكنه قَبِلَ التحدي عندما كُلِّفَ بالمهمة...هو الذي التحق بـ(الأنصار) عندما كان ضابطا في الجيش العراقي وكُلِّفَ بالهجوم على قرية كوردية في (حلبجه)، يومها رفض الأوامر وانشق مع عدد من جنوده عن وحدته العسكرية وانضم الى (قوات الأنصار) التي تحارب السلطة المستبدة ، وتعرضت إثر ذلك أُسرته في "مدينة الفلوجة" إلى نوبات من الترهيب والاعتقال تسببت بتشرد أطفاله ومرض زوجته من أثر التعذيب وعجزها المستديم بعد خروجها من السجن.

نادى (صلاّل الأنباري) على (نامق) ...وهو يقف إلى جانب مصهر حروف الرصاص، وأشار له الى الألواح المعدنية التي صُفَّتْ فيها القصائد والمقالات والطرائف والأخبار بحروف الرصاص بعد أن أدَّتْ دورها وصارت صفحات مطبوعة على الورق... قائلاً له بلهجة كوردية محلية أدهشت (نامق):

واجبك أن تنقل صفحات الرصاص من قسم "المداورة" إلى مصهر الرصاص، وتُعيد ألواح الرصاص إلى مكائن اللاينو تايب.

بعد ذلك اليوم تلاشت حاجة عمال اللاينو تايب الدائمة لألواح الرصاص وزال سبب توقفهم عن العمل لتأخر توفيرها لمكائنهم، فما ينجزه (نامق) يفوق حاجتهم، مما جعله يبحث عن مهمة أخرى بعد أن يوفر لهم فائضاً من ألواح الرصاص.

كان ينتظر حلول مساء كل خميس بلهفة... لأنه موعد مجيء محرري النسخة الكوردية من الجريدة، ليلتقي مع (شِيرْكو) الشاعر المبدع الشاب من قريته.

يقف (نامق) عند عامل المداورة العجوز المخضرم الصامت (أبو أياد) الذي يَصُفُّ حروف الرصاص لنصوص صفحات النسخة الكوردية الأسبوعية في الألواح المعدنية... ولطبيعته التربوية الأبوية زَجَّهُ (أبو أياد) بالعمل معهم حتى صار (نامق) بعد ثلاثة أشهر يتولى تصفيف حروف النسخة الكوردية من الجريدة دون أن يَخِلَّ بالتزامه في توفير ما تحتاجه مكائن اللاينو تايب من ألواح الرصاص...مثلما لم ينقطع عن جلسات السمر مع رفيقه القروي الجنوبي (أبو شمخي) ،الذين راح العمال يستمتعون بألفاظهما وهما يتبادلان الحديث باللغتين العربية والكوردية المهجنتين.

وبعد أن اختفى التردد في حوارهما خشية الخطأ باللفظ كما السابق... صارا أكثر ثقة في مخاطبتهما بعضهما للبعض...ومما عمق تلك العلاقة التي أمست مثالاً للوِدِّ، عيشهما في حجرة واحدة ملاصقة لمبنى المطبعة.

لم يعد الشارع المؤدي للمطبعة الفاصل بين المطبعة ومبنى مديرية الأمن العامة درباً آمناً... بعد أن تحولت مفرزة الأمن الطارئة في أول الشارع التي كانت تراقب الداخلين والخارجين من المطبعة، إلى نقطة تفتيش دائمة عند البوابة الخلفية للمطبعة... تَفْحَصُ الوثائقَ والوجوه وتُحصي أنفاس من في داخل المطبعة.

خلال أقل من شهر حوصرت المطبعة بأربعة نقاط تفتيش، وظهرت وجوه في تلك النقاط يعرف (نامق) أحدهم رجل أمن من أبناء "دهوك" كان يطارده حيثما يكون في قريته أو في مركز المدينة ... لم يمضِ أسبوع حتى بدأت أخبار اختطاف العاملين بالمطبعة تتواتر...

كان أول من أختُطِفَ مدير المطبعة (صلاّل الأنباري) الذي كان قبل اعتقاله قد أبلغ "عروة" بمعلومة عن استهداف (نامق) من قبل رجال الأمن، وبدأ يتناقص عدد العمال وسائقي التوزيع والمحررين دون أن تنقطع الجريدة عن التحرير والصدور بمن تبقى من محرريها وعمال مطبعتها...انضم (نامق) للسكن مع "عروة" والآخرين في الغرفة الملاصقة لبيوت الحي المجاور غرب المطبعة...كانت تلك الزاوية بالمبنى شريان التسلل الوحيد الآمن نسبياً للعاملين في المطبعة.

في المساء جرى اختطاف (أبو لبنى) كبير الفنيين عند خروجه من الباب الخلفي للمطبعة... ذلك الشاب الأسمر الهادئ الدؤوب الذي كان العاملون في المطبعة يخشون غيابه لأنه صمام الأمان لاستدامة دوران عجلة المطبعة، وبدونها يصبح كل ما يكتبه السياسيون والادباء والصحفيون في الجريدة محض أوراق شخصية بعيدة عن وعي القراء.

أحْكَمَتْ مفارز الأمن طوقها على مداخل ومخارج المطبعة... فتقرر أن يرتحل (نامق) من العاصمة بسرعة عائداً إلى مخابئ قريته التي تحصن فيها طيلة سنوات المقاومة... لأنهم أوشكوا أن يصلوا إليه ليقتلوه ...حسب المعلومات المتواترة إلى المطبعة من خارجها.

في ذلك النهار اتفق (نامق) مع "عروة" على أن يذهبا إلى السوق لشراء حقيبتين مدرسيتين لابنتيه التوأم اللتين ستدخلان الصف الأول الابتدائي بعد شهر.

حزم (نامق) أمتعته القليلة بكيس من الورق المقوى و"الحقيبتين"، وودع من تبقى من العمال وصديقه (أبو شمخي) الذي لم يصمد دون أن تهمل عيناه بالدموع، واستقل ذات سيارة (البيك أب) التي جاءت به...وبعد أسبوع...فيما كان "عروة" يتابع المعلومات عن اختطاف (أبو شمخي) من كابينة حراسة المطبعة من قبل مجموعة مسلحة من رجال السلطة...جاءت الأخبار:

وجدوا سيارة (البيك اب) متدهورة في حفرة إلى جانب الطريق بين الموصل ودهوك!